Ad Code

نظرية التطور بين العلم والدين والفلسفة ٧

نظرية التطور بين العلم والدين والفلسفة ٧


سيكون مجال بحثنا في هذا المقال عن الإيمان وعلاقته بالعلم في سياق بحثنا في نظرية التطور الداروينية بين العلم والدين والفلسفة ، وقد وصلنا في مجال بحثنا حتى سفر التكوين الذي يشرح الخلق الذي قام به الله القادر على كل شيء ، ولكن لكي نفهم الأمور جيداً ينبغي لنا أن نرجع قليلاً إلى الوراء .
العصور الوسطى ٤٧٦ م / ١٤٦٢ 
ساد في العصور الوسطى اتجاه التوفيق بين الدين والفلاسفة المدرسيون ، وحاولوا التوفيق بين فكر أرسطو واللاهوت المسيحي ، وبمرور الزمن أصبح لفكر أرسطو قوة على فكر القرون الوسطى ، ولما كان لرجال الدين في ذلك الوقت سلطانهم ، فكان كل فكر يظهر مخالفاً لفكر أرسطو ، يجد اصطداماً مع فكر رجال الدين وكان هذا هو المحور الرئيسي للصراع بين رواد الاتجاه العلمي التجريبي - وأغلبهم رجال دين - وبين رجال الكنيسة .
كان الصراع بين فكر متحرر عن فكر أرسطو ، وبين فكر متحيز لفكر أرسطو ، وقد تقدم العلم الحديث في اوروبا بفضل رجال اتقياء مزجوا بين فكر اليونان وفكر الكتاب المقدس ، وكان مؤسسو العلم الحديث إما رجال دين أو من العلماء الأتقياء إذ كان هدف العلم في تلك العصور هو خدمة الدين ، بفهم العقل الإلهي واكتشاف كيف يعمل خلقه ، " والواقع أن كل عالم كبير ابتداء من القرن الثالث عشر حتى لايبتنز ونيوتن ، كان يفسر داوفعه في إطار ديني ، بل إن جاليليو لو لم يكن عالم لاهوت هاوياً على هذا القدر الكبير من الخبرة لما تعرض لكل ما تعرض من المتاعب ، فالمحترفون ( رجال الدين اللاهوتيين ) استاءوا من تطفله . وبدا أن نيوتن كان يُعد نفسه عالم لاهوت أكثر منه عالماً طبيعياً ، وهكذا بدأ العلم الحديث بوصفه محاولة قام بها فلاسفة شديدو التدين لفهم العالم الطبيعي الذي خلقه الله ومنحهم إياه . لقد آمنوا أن الله كشف عن مقاصده بعدة طرق فقد كشف عن كلمته في الكتاب المقدس .. وأظهر صنع يديه في الكواكب والبيئة الطبيعية التي سخرها للإنسان " ( كافين رايلي ١٩٨٥ ) .  
محاكم التفتيش
من الجدير بالذكر أن محاكم التفتيش البابوية غير محاكم التفتيش الملكية الأسبانية الرهيبة .
في القرن العاشر الميلادي حدث تطور كبير في جميع مرافق الحياة وظهرت أفكار جديدة متباينة حتى " بدا العالم في نظر رجال الدين كأنه يتسابق نحو الجحيم " ، وفي عام ١١٨٤ م أنشأ البابا ليسيوس الثالث Lucius محكمة كنسية لمحاكمة من يتبين الحاده ومصادرة أملاكه وحرمانه من الكنيسة ، وكان القضاة من الرهبان الفرنسيسكان والدومينيكيين ، وقد أُستخدم مبدأ إدانة المتهم حتى تثبت براءته . في عام ١١٩٩ م نادى البابا انوسنت الثالث Innocent باستئصال الإلحاد والملحدين " فالكافر يحرم أخاه من نعيم السموات ومصيره جهنم وعليه اللعنة " وعلى نفس المثال قال القديس توما الأكويني :" إذا كان اعدام من يرتكب خيانة ضد الملك عدلاً ، فالأحرى أن يكون اعدام من يرتكب الخيانة ضد الله أكثر اتفاقاً مع العدالة " . حوالي عام ١٢٣٣ أُنشئت محاكم التفتيش رسمياً ، وكلف البابا بعض الرهبان الدمينيكيين بالتحقيق مع طائفة في جنوب فرنسا تمارس شعائرها سراً ، وتتبع مذهب ماني الفارسي ، واخذت محكمة التفتيش بأساليب التعذيب في التحقيقات ، ولكن نادراً ما حكمت بالإعدام على المتهمين بالهرطقة واكتفت بالحكم عليهم بالسجن ، وكان القضاة يتلهفون إلى اعتراف الهراطقة بعودتهم إلى الإيمان ، وكان يتولى العلمانيون تنفيذ الأحكام ، كما كان للمتهمين حق توكيل محام عنهم وكان لهم حق الإستئناف لدى البابا .
وكان الحكم مصاحباً بمصادرة ممتلكات المحكوم عليه مما أدى إلى الرشوة وابتزاز المال وتقديم التهم الباطلة . في عام ١٥٤٢ م حدد البابا بولس الثالث اختصاصات محاكم التفتيش بمحاكمة الهراطقة وحدد هيئة المحكمة بستة من الكرادلة ، وتوحدت محاكم التفتيش في إدارة واحدة سميت " بمجمع محاكم التفتيش " أو " المكتب المقدس " Holy Office . وفي عام ١٥٨٧ أعاد البابا سكتوس الخامس تشكيل هيئة المحكمة من ١٣ كاردينالاً وفي الحالات الهامة كان البابا بنفسه يرأس جلسة المحاكمة .
محاكم التفتيش الأسبانية .
أُقيمت محاكم التفتيش الثانية على يد ملك أسبانيا فرديناند الخامس وزوجته ايزابلا عام ١٤٧٨ وكانت مستقلة عن محاكم التفتيش البابوية ، ولم يوافق الباباوات على انشائها إذ اعتبروها ماسة بحق من حقوق الكنيسة ، وقد أُقيمت هذه المحاكم الملكية بهدف التجسس على اليهود وكانت سبباً في نفي اليهود من أسبانيا عام ١٤٩٢ ثم تطورت سريعاً إلى شكل من أشكال الرقابة على الفكر وكانت أحكامها أكثر قسوة وغالباً ما كان الحكم هو الاعدام . وقد أدت محاولة اقامتها في هولندا وبلجيكا إلى عصيان الأهالي ضد الحكم الأسباني ثم أُلغيت محاكم التفتيش في أسبانيا نفسها عام ١٨٢٠ م .
هل يوجد حرب بين العلم والدين 
في عام ١٨٩٦ ، أقدم رئيس جامعة كورنل ، أندرو دكسون وايت ، على نشر كتاب تحت عنوان " تاريخ الحرب الدائرة بين العلم واللاهوت ضمن العالم المسيحي " ومنذ ذلك الحين ، انتشر على نطاق واسع خلال النصف الأول من القرن العشرين ، اعتماد الإستعارة " الحرب " في إطار وصف العلاقة بين العلم والإيمان المسيحي ، وهكذا بات الرأي المهيمن - حتى في أوساط المسيحيين - أن العلم والمسيحية ليسا بحليفين في معرض البحث عن الحقيقة ، بل يشكلان بالحري خصمين .
العلوم الحديثة لم تنشأ في الشرق ولا في أفريقيا ، بل في الحضارة الغربية . لماذا ؟ هذا يعود إلى المساهمة الفريدة للإيمان المسيحي في تشكيل المجتمع والثقافة الغربية .
أمثلة لرجال دين من رواد العلم الحديث 
١- الراهب الإنجليزي " روجر باكون " ( ١٢١٤ - ١٢٩٤) أول من نادى باتباع المنهج العلمي التجريبي وأنه من خلال التجربة العلمية الدقيقة يمكن أن نكتشف الكثير من حقائق الكون ، وكان أن عوقب بالنفي مرتين .
٢ - فرنسيس بيكون ( ١٥٦١ - ١٦٢٦ ) ، ارتبط باسمه المنهج العلمي وهو الذي عبر عن المعالم الرئيسية للمنهج العلمي في كتاب وضعه من جزئين في عام ١٦٢٠م وسماه " الأرجانون الجديد " مشيراً بذلك إلى انتهاء فكر أرسطو ، ذلك لأن كتاب أرسطو في المنطق كان يسمى بالأرجانون أي " الأداة " ويقصد بها العقل البشري .
٣ - الراهب البولندي " نيقولا كوبر نيكوس "
 ( ١٤٧٣ - ١٥٤٣ ) كان كاهناً لكاتدرائية فراونبرج ، وكان نابغة في الفلك الرياضي ، وكان الاعتقاد السائد في عصره هو النظام البطلمي المنادي بمركزية الأرض ، إلا أنه لاح لكوبرنيكوس أن " الله الذي أتقن كل شيء صنعاً يتنزه عن خلق هذا الكون القبيح " وظل كوبرنيكوس يعمل قرابة ثلاثين عاماً بلا انقطاع ، فتوصل إلى دوران الأرض حول محورها مرة كل ٢٤ ساعة ، وحول الشمس مرة كل عام دوراناً دائرياً ، واكتشف ان المجموعة الشمسية بقعة صغيرة في مجموعة ضخمة من ملايين النجوم ، وأن هناك مجرات لا حصر لها ، ونشر الصورة الجديدة للعالم المتمركز حول الشمس في كتابه " حركات الكرات السماوية " وفي عام ١٤٥٣م نشر كتابه " التفسيرات " وأهداه إلى البابا بولس الثالث .
وترجع الثورة العلمية التي أدت لصورة النظام الشمسي المتمركز حول الشمس إلى خمسة من عظماء علماء الفلك كوبرنيكوس والأربعة الآخرين هم ، تيكوبراها الدانيمركي ( ١٥٤٦ - ١٦٠١ ) ، يوهانس كبلر الألماني ( ١٥٧١ - ١٦٣٠ ) .
من أهم كلماته " أيها الخالق . أباركك لأنك سمحت لي أن أعجب بأعمالك . لقد أتممت رسالة حياتي بالعقل الذي أنت وهبتنيه . أذعت للعالم مجد أعمالك . فإذا كنت بأعمالي التي كان يجب أن تتجه نحوك طلبت مجد الناس فاعف عني لصلاحك وحنوك . أيتها الإنسجامات السماوية باركي الرب . يا نفسي باركي الرب " .
٤ - جاليليو الأيطالي ( ١٥٦٤ - ١٦٤٢ ) 
مكتشف قوانين الديناميكا وكانت البداية عندما قام بتجربة شهيرة إذ ألقى من برج بيزا المائل جسمين أحدهما كبير والآخر صغير فوصلا إلى الأرض معاً ، أي بنفس السرعة ، وكان هذا مخالفاً لفكر أرسطو وهو أن الأجسام الكبيرة تسقط على الأرض أسرع من الأجسام الصغيرة ، وفي عام ١٦١٠ اكتشف ٤ أقمار حول المشترى ، كما اكتشف الكلف الشمسي ، والسُدم ، وكشف أوجه كوكب الزهرة ، واكتشف أن الطريق اللبني ( درب التبانة ) يحوي أعداداً من النجوم لا تحصى . 
وقد كتب إلى سكرتير دوق توسكاني يقول : 
" لقد أخذني من العجب ما لا نهاية له لما شاهدته وأني أشكر الله شكراً لا حد له إذ جعلني أول من شاهد العجائب التي لم يراها أحد من قبل " 
وفي عام ١٦١١ زار جاليليو روما وعرض منظاره على كبار رجال الكنيسة بين مظاهر الأعجاب والأستحسان ، ونُوقشت نظرية كوبرنيكوس في قصر دوق فلورنسا ، وكان اكتشافه لأقمار المشترى دليلاً على صحة نظرية كوبرنيكوس ، فإذا كان المشترى مركزاً لمجموعة من الأقمار فأن الشمس لابد أن تكون مركزاً لمجموعة من الكواكب ، وكان يؤيده بحماس من يدعى كاستلي الذي أرسل خطاباً لجاليليو قال فيه : إن الدوقة شديدة الإهتمام بنظرية كوبرنيكوس ، ولكنها تخشى أن يكون فيها إلحاد .
فرد عليه جاليليو : " إن الدوقة قد أحسنت القول كما ذكرت أن الكتاب المقدس لا يخطيء ، نعم ولكن المفسرين عرضة للزلل في صور متعددة ... الكتاب المقدس مقدم في صيغة تتفهمها عقول كافة الناس ، والله هو مصدر الكتاب المقدس وهو مصدر الطبيعة ، ولكن الطبيعة خلاف الكتاب المقدس فهي لا تتجاوز إطلاقاً قوانينها التي نلمس بحواسنا آثارها الطبيعية أو نستدل عليها من مظاهرها فالواجب علينا ألا ننسخها لأنها قد تبدو مناقضة لبعض ما جاء في الكتاب المقدس " .
وحصل الدومينيكان على صورة هذا الخطاب وقدموا جاليليو إلى محكمة التفتيش فسافر إلى روما حيث أُجبر على إنكار نظرية كوبرنيكوس تحت تهديد التعذيب وحُكم عليه بالسجن بتهمة أنه يميل إلى الهرطقة ومن كلماته الشهيرة ما نطق به بصوت منخفض عقب إنكاره نظرية كوبرنيكوس " وبرغم ذلك فمن المؤكد أنها ( يقصد الأرض ) تدور حول الشمس " .
ولما رجع جاليليو إلى فلورنسا أعد كتابه " حوار بين نظامين كونيين للعالم " وأوضح من خلاله تأييده لنظرية كوبرنيكوس ، وفي عام ١٦٢٣ أُنتخب الكاردينال باربيني بابا وكان صديقاً لجاليليو وقد وافق البابا على نشره للكتاب عام ١٦٣٢ على أن يذكر جاليليو أن نظرية كوبرنيكوس هي مجرد فروض ، ونشر جاليليو الكتاب ولم ينفذ ما أمر به البابا فأُتهم بالإلحاد وحوكم في روما عام ١٦٣٣ ، وصدر عليه حكم الحرمان من البابا وقضى بقية حياته ٩ سنوات سجيناً في بيته .
٥ - اسحق نيوتن ( ١٦٤٢ - ١٧٢٧ ) 
مكتشف قانون الجاذبية وأنه قانون كوني عام يسري على جميع الأجرام السماوية ، ووضع قوانين الحركة الثلاث الشهيرة بأسمه .
٦ - القس جوزيف بريستلي 
مكتشف غاز الأكسجين عام ١٧٤٤ .
٧ - جين انطوان نوليه ( ١٧٠٠ - ١٧٧٠ ) 
من رجال الدين الفرنسيين ومكتشف ظاهرة الإنتشار الغشائي 
٨ - الراهب جريجور مندل 
راهب تشيكوسلوفاكي وهو مؤسس علم الوراثة   
ومن العلماء الاتقياء الذين تحدوا فكر أرسطو 
تورشيللي
مكتشف ضغط الهواء الجوي عام ١٦٤٤ ، وكان تلميذا لجاليليو وقد خلفه أستاذاً للفلسفة والرياضة بجامعة فلورنس 
بليز بسكال ( ١٦٢٣ - ١٦٦٢ ) 
العالم الفرنسي الرياضي الشهير وصفه جيمس كونانت بأنه كان " رجلاً عجيباً في تاريخ العلم الحديث وفي تاريخ اللاهوت فقد كان قسيساً " ، وقد جمعت كتاباته الدينية بعد موته في كتاب يسمى " الأفكار " ويتسم بالتصوف .
روبرت بويل ( ١٦٣٧ - ١٦٩١ ) 
 عاش في جامعة أكسفورد ، وكان واسع الثراء ، ووهب حياته وثروته للعلم . كان مؤمن بالفلسفة التجريبية الحديثة كما نادى بها بيكون ، وكان بويل شديد التدين وقد درس اللاهوت وتعلم اللغات العبرية والسريانية واليونانية ليدرس الكتاب المقدس في لغاته الأصلية .
ومن العلماء الأتقياء أيضاً لافوزيه مكتشف دور غاز الأكسجين في الأحتراق والذي ألغى نظرية الفلوجستن ، وجون دالتون ، وكلارك مكسويل ، وميشيل فارادي ، ووليم براج ، وستيفن هيلز أبو علم وظائف الأعضاء ، ولويس باستور ( ١٨٢٢ - ١٨٩٥ ) الذي قضى على فكرة التولد الذاتي للأحياء ، وغيرهم . مما سبق سرده يكون قد ثبت لدينا أن التعصب لم يكن للدين ولا للإيمان بل لتحيز البعض لنظرية قد رأوا فيها أنها أقرب لفهمهم لتفسير نصوص الأيات وهذا يضع حملاً على عاتق من يفسرون الكتاب حديثاً ، إذ يجبرهم على الإطلاع على كل جديد في شتى أنواع العلوم والمعرفة مما يخرج المفسر من عمق لاهوتية الكتاب إلى سطحية التفسير العلمي ، بيد أن الكتاب المقدس ليس كتاب علمياً ، بل كتاب روحي يهدف لخلاص الإنسان وليس تنمية مداركه ، وزيادة مكتسباته العلمية ، ولو وجدنا ما يتطابق مع الكتاب المقدس من أشياء علمية فهو فقط لتمجيد أسم ربنا يسوع المسيح وليس لإعتبار الكتاب جهة منوط بها النظريات العلمية والبراهين.
سفر التكوين 
يُدعى في العبرية " بي راشيت " وهي الكلمة العبرية الأولى في السفر نفسه وتعني ( في البدء ) ، أما تسميته التكوين فمُترجمة عن السبعينية وتعني ( الأصل ) أو بداية الأمور .
وكاتبه هو موسى النبي ، وحين شغل موضوع الخليقة العالم القديم بكل دياناته وفلسفاته وأدبه الشعبي وكان يحمل مزيجاً من الأساطير والخرافات ، إلتزم موسى النبي أن يسجل في شيء من البساطة ما يمكن أن يفهمه حتى الرجل العامي في شرحه للخليقة ، بعيدة كل البعد عن الخزعبلات القديمة . ومما يجدر ملاحظته أنه لم يقدم لاهوتاً خاصاً بالخلق إنما حدثنا عن الخلق كطريق لتفهُم عمل الله الخلاصي .
يرى القديس ديديموس الضرير في تفسيره لسفر التكوين أن غاية الوحي الإلهي من الحديث عن الخلق هو تصحيح الأفكار الخاطئة التي تسربت إلى إسرائيل في هذا الشأن من العبادات الوثنية المصرية ، أما القديس باسيليوس فيؤكد أن عمل الكنيسة ليس دراسة طبيعة المخلوقات ( أي الدراسات الفلسفية العقلية الجافة ) وإنما النظر في أعمالها ونفعها ، وأن موسى النبي كتب في بساطة ليؤكد بعض الحقائق التي شوهها بعض الفلاسفة الملحدين ، فأكد أن العالم ليس وليد الصدفة ، إنما هو عمل خالق ماهر ، وأنه ليس أزلياً مع الله ولا يشاركه أبديته إنما له بداية ونهاية .
يبدأ هذا السفر بالحديث عن عمل الله كخالق ، يوجد الحياة من العدم ، لكنه ينتهي بيوسف في أكفانه بمصر " ثُمَّ مَاتَ يُوسُفُ وَهُوَ ابْنُ مِئَةٍ وَعَشَرِ سِنِينَ، فَحَنَّطُوهُ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ فِي مِصْرَ. تك26:50 " . فما أقامه الله من حياة أفسده الإنسان بشرِه ، إذ دخل بنفسه إلى أكفان الظلمة والدنس ليُدفن في مصر ، والعجيب أن السفر ينتهي بالدفن في مصر بالذات التي عُرفت بالأهرامات وأبي الهول وفن التحنيط الذي لا يزال موضع بحث العلماء حتى يومنا هذا .
من جهة الأسلوب ، سجله موسى النبي نثراً لا شعراً ، بطريقة تاريخية ، ليقدم لنا الحق في بساطة ووضوح بعيداً عن الأساطير التي ملأت العالم في ذلك الحين  . 
حاول كثير من الدارسين الغربيين تأكيد أن ما ورد في سفر التكوين لا يتنافى مع الحقائق العلمية حسب الفكر الحديث ، ورأى البعض أن ما ورد من تسلسل في الخليقة كما جاء في سفر التكوين يطابق الفكر الخاص بتطور الخليقة بدقة بالغة .
وسنعرضها في سياق بحثنا ، يُلاحظ في كلمة " يوم " في الأصحاح الأول من سفر التكوين أنها لا تعني يوماً زمنياً محصور في ٢٤ ساعة ، إنما تعني حقبة زمنية قد تطول إلى ملايين السنين ، فالشمس والقمر والكواكب لم تكن بعد قد خُلقت حتى الحقبة الزمنية الرابعة .
يقول الكتاب : " في البدء خلق الله السماء والأرض " تك ١ :١ . تلك هي عقيدة الخلق التي بموجبها نقر أن كل الموجودات قائمة في الوجود بإرادة الله وبإرادته فقط ، ومستمدة منه وجودها . وهذا ما نعبر عنه في قانون الإيمان بقولنا :" نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض ، ما يرى وما لا يرى " . 
كنا قد كتبنا في الأعداد السابقة عن تطور الكون من سحب هيدروجين حتى وصل الكون بشكله الحالي فيما يعرف بالإنفجار الكبير ، نظرية الإنفجار الكبير هذه تختزل في عبارة في البدء ، وسنرى الآن إتساق سرد سفر التكوين الذي كُتب قبل ٣٤٠٠ سنة مع مكتشاف العلم الجيولوجي .
ستة أيام الخليقة والزمن الجيولوجي : 
كشف علم الحفريات عن التطابق بين ما سجله الكتاب المقدس وما كشفته الحفريات بخصوص تتابع ظهور الأشكال النباتية والحيوانية .
المملكة النباتية

 فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا كَجِنْسِهِ، وَشَجَرًا يَعْمَلُ ثَمَرًا بِزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.  وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَالِثًا.  تك 13-12:1 .
العصر السيلوري 
الحياة القديمة . أول النباتات البرية عديمة البذور مثل : الحزازيات والسراخس ( فأخرجت الأرض عشباً ) .
العصر الترياسي 
الحياة الوسطى . بدء ظهور النباتات عارية البذور ( المخروطيات ) ، حيث تتكون البذور على المخاريط الزهرية كما في أرز لبنان والصنوبر . ( وبقلاً يبزر بزراً كجنسه ) 
العصر الجوراوي 
الحياة الوسطى المتقدمة . بدء ظهور النباتات الزهرية كاسية البذور وهي النباتات المثمرة وتحوي ثمارها البذور في داخلها . ( وشجراً يعمل ثمراً بزره فيه كجنسه ) .
العصر الإيوسيني 
الحياة الحديثة . بدء ظهور أنواع جديدة من النباتات المثمرة ، ثم تعددت أجناس كاسيات البذور وبالأخص ذوات الفلقتين . ( وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً . تك ٢ : ٨ ) 
من قراءتنا لليوم الذي تم فيه الإنتهاء من المملكة النباتية يستقر لدينا أن اليوم معناه حقبة زمنية كاملة تطول أو تقصر حتى تتم إرادة الله القادر الحكيم . 
المملكة الحيوانية 
وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ»....فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الْتِى فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.. وَقَالَ اللهُ: «لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ، وَدَبَّابَاتٍ، وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا». وَكَانَ كَذلِكَ.. فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ.   تك25,24,21,20:1 
العصر الكمبري 
الحياة القديمة " تقابل جزء من اليوم الثالث + اليوم الرابع "  ظهور فجائي لمعظم شعب اللافقاريات في بحار العالم . 
وقال الله " لتفض المياه " إشارة إلى وجود حياة سابقة في الماء قبل اليوم الإلهي الخامس.
العصر الأورودوفيشي 
بدء ظهور الأسماك المدرعة .
العصر الترياسي 
الحياة الوسطى ( يقابل اليوم الخامس للخليقة ) . بدء ظهور الزواحف العملاقة المنقرضة . ( وخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة ) .
العصر الجوراوي
الحياة الوسطى المتقدمة .بدء ظهور الطيور .  ( وكل طائر ذي جناح كجنسه ) .
العصر الإيوسيني 
الحياة الحديثة . ( يقابل اليوم السادس للخليقة ) . بدء ظهور الزواحف الحديثة ( الثعابين في الإيوسين ) . 
بدء ظهور الثدييات آكلة العشب ثم آكلات اللحوم.
( لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها) .
ظهور الإنسان ( آخر المخلوقات ، وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض . تك ١ : ٢٤ ) 
 
في الجزء السابق رأينا كيف يتفرد أدم دون باقي الكائنات ولكننا سنتحدث في هذا الجزء عن التطور ، التطور كنظرية تترجم كأساس علمي يتم من خلاله النظر إلى الأشياء وليس فرضية ،وليس الكائنات الحية فقط بل الكون نفسه كون تطوري ،  ولكن حين أراد الملحدين أن يستخدموا النظرية لإعفاء الخالق من مسؤلية الخلق والإلقاء بالمسؤلية على كاهل التطور ومن قبله الصدفة ، قوبلت النظرية بالرفض من المجتمع الديني وحتى اليوم ، وليس من المنتظر أن يترك طرف موقفه ، ولكننا هكذا نعود للعصور الوسطى حيث هناك رأي علمي ينحاز له فريق مقابل رأي علمي آخر ينحاز له الفريق الآخر ، والعلم نفسه يومياً يخرج علينا بجديد .
 محاولة البعض بتعليل التطور بالصدفة ، فبالصدفة تجمعت ذرات المادة بتعقيد متزايد ، وبالصدفة تألفت الخلية الحية ، وبالصدفة تركب الدماغ الإنساني ، تلك نظرة فلسفية يعود أصلها إلى فلاسفة إغريقيين قدامى كديموقريطوس ، ولا تثبت أمام ما يكتشفه العلم الحديث من مدى التعقيد والتنسيق الذي تتصف به خلية حية واحدة . لذا نبذها معظم علماء اليوم ، حتى من يدين منهم بالمذهب المادي .
لم تكن المادة يوماً تشغل بال القديسين والمفسرين الروحيين للكتاب المقدس بل لم تشغل بال الله نفسه حين أوحى لعبده موسى بكتابة سفر التكوين ، بل كتب في إيجاز ليحمي شعب الله المختار من خزعبلات الشعوب المجاورة ، فالمادة ستفنى وهذا ما يؤكده العلم أيضاً ، ولكن الإنسان الخالد لن يفنى ، هو خالد خلود النسمة التي أعطاه إياها الإله الأبدي الأزلي ، ومن هنا يجب علينا لا أن نفكر من أين أتينا ، ولكن إلى أين نذهب ، نحن جميعاً الآن في معبر ، بحرية إرادتنا التي أعطيت لنا من الله ، نقرر إلى أين نذهب ، فحرية الإرادة لا تمتلكها المادة ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، ولا يمكن أن يتطور كائن إلا لو كانت مقومات التطور في جيناته ، ولما كانت الحياة من الحي خرجت ، والحي مريد وحر وقادر ومفكر ، ورثنا نحن أيضاً صفاته حين قال على صورتنا كشبهنا ، فالحري بنا أن نتضع أمامه لأنه خلقنا بشريين وهو لم يكن مرغم من قبل أي قوة فهو فوق الجميع ولكنه لإنه إله مُحب بل هو المحبة عنوان له وبه تُعرف ، شاركنا في ما يتصف به ووعدنا لو استخدمنا حريتنا في محبته من كل الفكر والقلب والقدرة أن نشاركه ملكوته أيضاً ، فيجب علينا أن لا نكف عن الصلاة أبداً مهما حاول عدونا أن يجذبنا نحو أفكاره التي لا ترى في الإنسان سوى حيوان فقط ، فنحن نمتاز عن الشيطان نفسه أننا أحرار في الرجوع إلى الله بتوبتنا ، ولكنه لا يملك القوة حتى للتوبة فهو مأسور من كبريائه ، ونحن لا نجهل أفكاره .
أخيراً يختلف الإيمان عن المعرفة العقلية البحتة ، لأن الله موضوعه ليس فكرة أو معادلة رياضية أو مبدأ خلقياً أو ناموساً فائقاً ، إنما هو شخص . الإيمان بالله هو أساس اعتراف بشخص وأتصال به ، وذلك يتعدى مجرد عملية عقلية ، لأنه يتطلب موقفاً شخصياً ، موقف إنفتاح وتقبل . 
يقول لنا فرويد . أن الدافع النفسي العميق الذي حمل البشر على مقاومة نظرية كوبرنيكوس هو كون هذه النظرية نقضت الأعتقاد بأن الأرض ( وبالتالي البشر ) هي مركز الكون ، وجعلت منها نقطة في الفضاء اللامتناهي ، وبالتالي طعنت الكبرياء البشري في الصميم ، الإيمان بالله يتطلب انسلاخاً اعظم من هذا بما لا يقاس ، لأنه يعني التخلي لا عن مركزية مكانية وحسب بل عن مركزية كيانية ، وهذا أعمق بكثير .  
في كتابه " كيف تطرح اليوم قضية وجود الله ؟" ، يستعرض كلود تريمونتان ، أستاذ فلسفة العلوم في جامعة السوربون ، المذاهب المادية في تعليل التطور وبعد أن يذكر المؤلف رأي ماركس بأن الكائنات في الطبيعة تنشيء ذاتها يعلق على ذلك بقوله :" هذا بالضبط ما يحتاج إلى إثبات ، لأننا إذا نسبنا إلى المادة القدرة على تنظيم ذاتها بصورة جزيئات ، ثم جزيئات ضخمة ، ثم أجسام أحادية الخلية ، ثم أجسام متعددة الخلايا أكثر فأكثر تعقيداً ، فهذا يعني أننا نسبنا إلى المادة ذكاء وعبقرية يفوقان كل ذكاء الإنسانية المُفكرة ، طالما أننا ، بعلمنا ، لم نزل بعيدين عن إدراك كيف تم ، وكيف لايزال يتم في هذه اللحظة بعينها ، تنظيم المادة الذي يكوّن الأجسام الحية والمُفكرة ....
ولكنني أتساءل مرة أخرى : ماذا يعني فكر المادة ؟ المادة كثرة ، إنها مجموعة . ما هو إذاً ذلك الفكر الذي تتحلى به جمهرة من الذرات والجسيمات التي تتحدث عنها الفيزياء الحديثة . إنني لا أتوصل إلى رؤية ما يسمح لي بأن أنسب إليها فكراً قادراً على الإشراف على تنظيمها . لكي تنتظم مجموعة من العناصر ، ينبغي أن يوجد مبدأ واحد يعلو على تعدد العناصر هذا ويجمعه في وحدة مؤلفة في تنظيم مُركز . ولكنني لا أرى ، في المادة التي تحدثنا عنها الفيزياء الحديثة ، أي شيء يسمح لي بأن أنسب ألى الذرات شخصية خفية وقدرات كهذه " .
وللملحدين نقول، أنكم وقعتم في أول تجربة أسقط بها الشيطان أمنا حواء حين قال لها ستصبحا إلهين عارفان الخير والشر ، وأنتم حينما تصورتم أن في بعدكم عن الخالق حياة لكم ، سقطتم حتى قبل أن تبدأوا في معرفة الخالق ، ولم تبحثوا كما يجب عليكم ، فإن أخذ معرفة المادة كل هذا الوقت والدراسة فكم بالأحرى ينبغي عليكم أن تبذلوا من الوقت والجهد لمعرفة الخالق . تشجعوا مادام الوقت يدعى اليوم . 

في إنجيل معلمنا يوحنا البشير توجد معجزة للسيد المسيح قام بخلق عينين لمولود أعمى ، والجهاز البصري من أدق الأجهزة في جسم الإنسان ويرتبط إرتباطاً لا يعبر عنه بالمخ الذي يترجم الصور ، والمخ البشري هو ما يتفرد به الإنسان دون سائر المخلوقات ، فقد أعلن السيد المسيح قبلاً عن قوته وسيادته على الخلق ، كما أعلن سيادته على البحر والماء والرياح وإقامة الموتى ، كذلك حين دخل المسيح عالمنا دخل بواسطة إمراءة كما يأتي جميع البشر ولكن دون زرع بشر ، ولم يقفز قفزات كوانتيمية ، ونما قليلاً قليلاً كشبه البشر .
إنتهى البحث بنعمة المسيح 

أقرأ أيضاً الجزء الأول من هو داروين 


أقرأ أيضاً الجزء الثاني  الرؤية الدينية عند داروين


أقرأ أيضاً الجزء الثالث استخدام النظرية لأغراض شخصية




أقرأ أيضاً الجزء الخامس ماذا قال العلم عن نظرية التطور 

أقرأ أيضا الجزء السادس الإنسان تاج الخليقة

إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu