Ad Code

نظرية التطور بين العلم والدين والفلسفة ٤


تأثير نظرية التطور على فلسفة القرن العشرين.

لا ينكر أحد كيف أثرت نظرية التطور في الأفكار الفلسفية للقرن العشرين ، فكلمة فلسفة قديماً كانت تعني محبة الحكمة ، لكن الفلسفة لا تزعم يوماً أنها قد أدركت الحقيقة أو أنها أمسكت بناصية اليقين ، فيحق لنا أن ننبه إلى أن الفيلسوف ليس عقلاً محضاً أو مفكراً بحتاً ، وأنما إنسان يخضع لما يخضع له الناس في الحياة ، ويتأثر بما يتأثرون به فيها من خير وشر ، وكم كانت للدوافع النفسية والعادات والمجتمع المحيط عظيم الأثر في توجيه فكر وقيادة ذهن الفيلسوف وإن كان أثر التفكير أقوى من العوامل النفسية .
الفلسفة " محبة الحكمة " ، فسقراط يوم وصفوه بالحكيم تواضع وقال : لست حكيماً وإنما محب للحكمة ، ومن هنا جاءت كلمة فيلسوف وهي كلمة يونانية تتألف من مقطعين " فيلو " أي مُحب ، ثم " سوفيا " ومعناه حكمة .  
 «أَمَّا الْحِكْمَةُ فَمِنْ أَيْنَ تُوجَدُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ الْفَهْمِ؟ . لاَ يَعْرِفُ الإِنْسَانُ قِيمَتَهَا وَلاَ تُوجَدُ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. الْغَمْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ فِيَّ، وَالْبَحْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي. لاَ يُعْطَى ذَهَبٌ خَالِصٌ بَدَلَهَا، وَلاَ تُوزَنُ فِضَّةٌ ثَمَنًا لَهَا. لاَ تُوزَنُ بِذَهَبِ أُوفِيرَ أَوْ بِالْجَزْعِ الْكَرِيمِ أَوِ الْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ. لاَ يُعَادِلُهَا الذَّهَبُ وَلاَ الزُّجَاجُ، وَلاَ تُبْدَلُ بِإِنَاءِ ذَهَبٍ إِبْرِيزٍ. لاَ يُذْكَرُ الْمَرْجَانُ أَوِ الْبَلُّوْرُ، وَتَحْصِيلُ الْحِكْمَةِ خَيْرٌ مِنَ اللّآلِئِ. لاَ يُعَادِلُهَا يَاقُوتُ كُوشٍ الأَصْفَرُ، وَلاَ تُوزَنُ بِالذَّهَبِ الْخَالِصِ. «فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي الْحِكْمَةُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ الْفَهْمِ؟ . إِذْ أُخْفِيَتْ عَنْ عُيُونِ كُلِّ حَيٍّ، وَسُتِرَتْ عَنْ طَيْرِ السَّمَاءِ. اَلْهَلاَكُ وَالْمَوْتُ يَقُولاَنِ: بِآذَانِنَا قَدْ سَمِعْنَا خَبَرَهَا. اَللهُ يَفْهَمُ طَرِيقَهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَكَانِهَا. لأَنَّهُ هُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ يَرَى. لِيَجْعَلَ لِلرِّيحِ وَزْنًا، وَيُعَايِرَ الْمِيَاهَ بِمِقْيَاسٍ. لَمَّا جَعَلَ لِلْمَطَرِ فَرِيضَةً، وَمَذْهَبًا لِلصَّوَاعِقِ،  حِينَئِذٍ رَآهَا وَأَخْبَرَ بِهَا، هَيَّأَهَا وَأَيْضًا بَحَثَ عَنْهَا، . وَقَالَ لِلإِنْسَانِ: هُوَذَا مَخَافَةُ الرَّبِّ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَالْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ هُوَ الْفَهْمُ».  أيوب28-12:28
وقد قال عنها سليمان : طُوبَى لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَجِدُ الْحِكْمَةَ، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يَنَالُ الْفَهْمَ، لأَنَّ تِجَارَتَهَا خَيْرٌ مِنْ تِجَارَةِ الْفِضَّةِ، وَرِبْحَهَا خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ. هِيَ أَثْمَنُ مِنَ الَّلآلِئِ، وَكُلُّ جَوَاهِرِكَ لاَ تُسَاوِيهَا.  فِي يَمِينِهَا طُولُ أَيَّامٍ، وَفِي يَسَارِهَا الْغِنَى وَالْمَجْدُ.  طُرُقُهَا طُرُقُ نِعَمٍ، وَكُلُّ مَسَالِكِهَا سَلاَمٌ.  هِيَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ لِمُمْسِكِيهَا، وَالْمُتَمَسِّكُ بِهَا مَغْبُوطٌ.  الرَّبُّ بِالْحِكْمَةِ أَسَّسَ الأَرْضَ. أَثْبَتَ السَّمَاوَاتِ بِالْفَهْمِ. 
 أم 19-13:3
وعلى نقيض ذلك نرى الجاهل وقد قال عنه داوود النبي في سفر المزامير  مز 14 : 1
قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ». فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا. 
ولما كان كل غرض عدونا الشيطان أن يبعدنا عن الأبدية والنعيم الأبدي فكان من إستخدام الفلسفة (وهي من أرقى العلوم لأنها تستأثر بأرقى الملكات الفكرية ، ولأنها دراسة الفكر نفسه الذي تقوم عليه جميع العلوم البشرية ، بدراسة الفلسفة يُمَرّن العقل على حل المشكلات وفك الغوامض والمبهمات ) السبيل لمحورة فكر الإنسان إتجاه الخطية والشر ، وجعل من السلطة واللذة مقياساً لسعادة الإنسان  .
لا شك أن نظرية النشوء والارتقاء كان لها أكبر الأثر في نفي وجود الله وتحويل وجود الإنسان إلى مسألة ميكانيكية تخضع للحتمية ومن أقوى من دافع عن هذه النظرية وأدخلها للفلسفة " توماس هنري هكسلي " ومناظرته الشهيرة آنذاك مع " صامويل ويلبرفورس " اسقف " ورسستر " في اكسفورد في اجتماع للجمعية البريطانية للنهوض بالعلم سنة ١٨٦٠ إذ قال : " إن سنحت لي فرصة الأختيار بين أن يكون جدي قرداً تعيساً أو إنساناً منحته الطبيعة الكثير من الهبات ويتمتع بقدر كبير من التأثير ، ولكنه يستخدم تلك الملكات وذلك التأثير لمجرد حشر بعض السخافات التافهة في مناقشات علمية جادة ، فأنا أؤكد دون تردد أني سأختار القرد " . 
ويقال إنه عندما قص الأسقف على زوجته ما حدث ، أجابت قائلة : " منحدرون من القردة ! . يا للهول . أتمنى ألا يكون هذا صحيحاً . وإن كان ، فلنصلِّ ألا ينتشر هذا الخبر " .
ولكن تأتي الرياح بما لا تشته السفن فقد أنتشر الخبر وبات للفلاسفة أساس علمي يشبعون به شغفهم بالخروج على أي رقيب أو قوة عليا تتحكم في مصائرهم وتطلعهم نحو تفرد الإنسان .
ولكن لنرجع قليلاً إلى الوراء لنعلم لما حدث كل ذلك .
رينيه ديكارت " أب الفلسفة الحديثة " ١٥٨٦ / ١٦٥٠ 
زَعم أنه تلقى إرشاداً إلهياً بينما كان يخدم في الجيش في ألمانيا ، لكي يطور نظاماً موحداً عن الواقع مستنداً إلى مبادئ حسابية ، وقد جادل ديكارت بأنه لا يوجد إلى الآن شيء مخفى عنا لا يمكننا الوصول إليه أو إكتشافه بواسطة المنطق ، ولأنه كان متخصصاً في الرياضيات أراد أن يثبت الحقائق من دون اللجوء إلى الإفتراض مسبقاً بأنها أكيدة أو بديهية ، كانت هذه الفكرة تعتبر إبتعاداً جزرياً عن النظرية العلمية التقليدية والتي كانت مبنية على الإحتمالات . كانت عبارة ديكارت المشهورة " أنا أفكر ، إذاً ، أنا موجود " ، عاش ديكارت في زمن كانت فيه فلسفة الشك تنتشر بسرعة من خلال كتابات رابليه ، ومونتانيه ، وفرانسيس بايكون ، كان ديكارت ينحدر من عائلة من المحامين ورجال الأعمال ، وكانت المحاججة والرياضيات مواهب طبيعية في عبقريته ، كان هدف ديكارت الرئيسي تحصيل المعرفة بطريقة أكيدة وموثوقة ليتجاوز مشككي عصره ، كافح للوصول إلى ثوابت رياضية ، بمعنى أنه أقتلع الماورائية وبالتالي الله الذي أخرجه تدريجياً ليُصبح فكرة فطرية بدل أن يكون كياناً يمكن الدفاع عنه منطقياً .
ديفيد هيوم ١٧١١ / ١٧٧٦
تسجل ديفيد هيوم في جامعة إدنبره في سن الثانية عشر ، لكنه ترك الجامعة قبل أن يحصل على شهادة منها لأنه كان له كما يقول : " نفور كبير من كل شيء إلا من السعي وراء الفلسفة والثقافة العامة " ، بدأ في عمر الثالثة والعشرين كتابة أول كتاب له بعنوان " رسالة في الطبيعة البشرية " والذي أثبت فيه الحجة التجريبية بأن الحقائق لا يمكن إثباتها بمنطق بديهي ، بل تُكتشف أو يُستدل إليها من خلال الإختبار ، وهكذا ، وجود الله ، أصل الكون ، والمواضيع الأخرى التي تتخطى إختبارنا البشري الزائل لا يمكن التحقق منها ولا معنى لها ، يرتبط اسم هيوم مع الفلسفة التجريبية والتشكيك ، لقد أنزل الإنسان إلى مرتبة مادة فيزيائية للدراسة تماماً كما تدرس المواد الفيزيائية الأخرى إذ يصرح قائلاً " بما أن الإنسان مكون من مادة وجوهر ، فالروح في واقع الحال قد انتفت . الفكرة الثانية التى هاجمت بطريق مباشرة أحد البراهين الكلاسيكية لوجود الله ، هي فلسفة هيوم السببية ، التي تربط في الذهن تتابع  حدوث فعل كنتيجة لحدوث فعل أخر سابق له مما يعطي إمكانية للمغالطة المنطقية ، فالشمس مثلاً تشرق عادةً بعد صياح الديك ولكن بكل تأكيد لا تشرق بسبب صياحه . والنقطة الأخيرة في فلسفة هيوم هي الأخلاق ، علم أن الأخلاق لا ترتكز على المنطق أو على واقع الأمور بل على المشاعر  ، الحكم الأخلاقي يولد في الداخل ، ويعتمد إما على إيجادك مشاعر الموافقة أو عدم الموافقة الحكم الاخلاقي هو نتيجة المشاعر والاحاسيس لا المنطق ، يمكن مقارنة الفضيلة والرزيلة بالألوان والأصوات أو بالبرد والحر . 
تلخيصاً لتفكير هيوم ، يوجد عداوة واضحة عنده نحو الدين الموحى به ، ونحو العجائب ، لقد جهز نموذجا للعقل الإلحادي وما وصل إليه في فلسفته يتلخص في هذه العبارة " أنا مرتعب ومتحير من هذه الوحدة البائسة التي وضعتني فيها فلسفتي".
 
امانويل كانت ١٧٢٤ / ١٨٠٤ 
فيلسوف ألماني ولد في مدينة كونيغزبرغ التي هي كالينينجراد حالياً بروسيا( قبل أن تنفصل عن ألمانيا) ، من أعظم الفلاسفة على مر الزمن ويقف جنباً إلى جنب في مرتبة العظماء الثلاثة ، سقراط وافلاطون وأرسطو 
بعدما تخرج من الجامعة الموجودة في مدينة ولادته ، أصبح معلماً خاصاً لبعض العائلات ، ثم أصبح أستاذاً جامعياً لمادة المنطق والماورائيات بجامعة كونيغزبرج في العام ١٧٧٠ ، عاش كانت حياة هادئة ونظامية ، وكان قليل السفر ، بقي عازباً كل حياته وضُرب فيه المثل حول إلتزامه الدقيق بالمواعيد ، كانت هو الذي قال إن ديفيد هيوم هو " أول الذين أيقظوني من غفوتي العقائدية " ، هو أيضاً الذي قال أن أمرين يستوقفانه بمهابة ، " الفلك الملآن بالنجوم فوقه ، والقانون الأخلاقي الموجود بالداخل " .
يمكن اعتبار كانت من أوجه عدة ، الرائد الوحيد لثقة الإنسان الحديث بقوة المنطق لمصارعة الأمور وعجزها عن التعامل مع أي شيء يتخطى المادة .
فكل ما هو واضح بأنه حقيقي يمكن تبريره منطقياً وكل ما هو مُطلق لا يمكن الدفاع عنه بالمنطق . بالرغم من أنه كان يعارض أفكار دايفيد هيوم إلا أنه وقع في لا أدرية المُطلق وقدم شكاً مضاعفاً .
يكفينا هؤلاء الثلاثة من الفلاسفة قبل ظهور نظرية التطور موضوع بحثنا ، وستلاحظ فيما هو قادم أن الفلسفة خرجت من خباءها خلف الشك مستندة على ما قدمته نظرية التطور ، إلى الإستناد إلى واقع علمي يبرر لها مهاجمة كل ما هو ورائي حتى لو أثبت العلم فيما بعد عدم موائمة مبررهم مع الواقع العلمي البحت .
فريدريك نيتشه ١٨٤٤ / ١٩٠٠ 
كان والد نيتشه قساً في الكنيسة اللوثرية ( نسبة الى مارتن لوثر مؤسس البروتوستانت) ، وكان جداه أيضاً يعملان في الخدمة المسيحية توفى والده عندما كان في الخامسة من عمره ، حين وصل إلى كولن كتلميذ طلب من دليل أن يرشده إلى فندق لكن بدل من ذلك أخذه هذا الخبيث إلى بيت بغاء ، وحين وجد نيتشه نفسه محاط ببنات الليل وزبائنهن القذرين شعر بصدمة رهيبة ولم يخفِ إزدراءه لأولئك المشاركين في تلك الممارسات الصاخبة ، وبعد أن لعب عازف البيانو بعض الألحان . انطلق إلى الخارج بسرعة البرق ، معلناً أن الهدف الوحيد لكل البشر هناك هو الإستماع لعزف البيانو ، كثيرون من الذين عرفوه ألمحوا أن الأغراء أوقع نيتشه في الفخ فعاد لاحقاً ، بعد ثلاث سنوات أعترف بإصابته بالزهري في تلك الفترة . وقد تغيرت حياته بطريقة مأساوية ، وأنه لأمر يفطر القلب أن تقرأ وصفاً لعقله ونمط حياته السقيم ، بينما كان يسير نحو مكتبته كل يوم ليكتب مقالته ضد الله ، كان مقوَّس الظهر ، قصير القامة ، ضعيف النظر ، وكان يعود كل يوم إلى حياته الروتينية في غرفته الصغيرة القارسة البرد وغير المرتّبة ، وكان على طاولته قصاصات لا تُحصى من الأوراق المُكدسة تحوي أفكاره غير المنتظمة . وتجد في إحدى الزوايا ممتلكاته الوحيدة وهي عبارة عن بذلة رثة وقميصين مطروحة في صندوق خشبي قديم ، كان في غرفته أيضاً كتب ومخطوطات مبعثرة هنا وهناك ، وصينية عليها عدد كبير من الزجاجات التي تحتوي على أدوية وجرعات طبية للتخفيف من آلام رأسه الحادة التي كانت تنهكه ، إضافة إلى آلام معدته التي كانت تسبب له نوبات من التقيؤ ، كانت مسكنات الألم تطرحه لساعات عديدة فاقد الوعي ، وقد جمع حوله هذه الترسانة من السموم والأدوية المخيفة فقط لتخفف آلام عالمه الذي يتفتت وينحل سريعاً ، كان يكتب لساعات طويلة ، ملتحفاً بمعطفه ووشاحه ، متقوقعاً قرب موقد يخرج دخاناً بدل الحرارة ، وكان يرتدي نظارات سميكة ويقترب بها أكثر فأكثر نحو الصفحات التي يقرأها كان يسكب أفكاره على الورق إلى ما لا نهاية ، وكان جسده يرتعش وعيناه تتحرقان فيما كانت حياته التي تقودها أفكاره المضطربة تتجه نحو نهايتها . وإن العبارة التي تلخص بصورة حادة ومؤلمة حالة نيتشه هي بالقول " ذردشت هو خلاصة عمل رجل متوحد تماماً " .
تجلت نظرية التطور في مثله القائل " هكذا تكلم زردشت " ، الرسالة التي أراد نيتشه أن يوصلها من ذلك المثل هي رسالة عاطفية ومحددة الهدف في الوقت نفسه ، تتكلم القصة عن زردشت الذي هو سيد أخلاقي ، سعي في مرحلة من حياته إلى خلق عالم خاص به فتنسّك منعزلاً على أحد الجبال . بعد محاولات دامت عدّة سنين للتوصل إلى عالم أخلاقي مثالي خاص به ، تخلى عن سعيه للفضيلة لأنها غير منطقية وزائفة . أقرّ أخيراً بتردد بأنه كان على خطأ ، وتخلى زردشت عن معتقده الذي كان يوماً يعتبره كنزاً ثميناً ، وهجر عالم التنسُّك المعزول . كانت مهمته وهو تارك جبله أن يعلن للعالم أسفل الجبل عن هذه المعرفة الجديدة التي اكتشفها ، والتي حرّرته من قيود الأخلاق التي كانت تُكبِّله . التقى ذات مرّة ناسكاً ضحّى ، فَكَرِهَ كل شيء لأجل " محبة الله " . وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث ، سأل الناسك زردشت أين كان ذاهباً . أجابه زردشت إنه يغادر الجبل لكي يعود إلى " الأعماق " فيحطم الأساطير التي يؤمن بها الإنسان ، أساطير الفضيلة والأخلاق والله ، وبينما كان يدير ظهره للناسك الذي كان يتوسل إليه أن يتخلى عن هذه المهمِّة( لأنه من الخطأ التنصُّل من الأخلاق ) قال زردشت بينه وبين نفسه وهو يرثى لحال الناس: " ألم يخبره أحد أن الله قد مات ؟ " . عند وصوله إلى المدينة بدأ زردشت يبشر الناس برسالته الجديدة ، في الأسواق ، حيث احتشدوا ليشاهدوا رجلاً يمشي على حبل مشدود بين برجين شاهقين . استغل زردشت الفرصة واستخدم الحِيَل البارعة لكي يشرح نقطته .
الرجل هو حبل ، ممتد بين الحيوان والرجل الخارق ، حبل يمتدُّ فوق الهاوية . العبور خطر ، والسير خطر ، والنظر إلى الخلف خطر ، والاهتزاز والتوقف خطر .
وبينما كان يتوسع في هذا الموضوع ، وصل الرجل إلى منتصف الطريق بين الحيوان والرجل الخارق ، ثم أضاف زردشت :
لقد شَقَقتَ طريقك من دودة إلى إنسان ، ومعظم كيانك مازال دودة . كنت مرة قرداً ، والإنسان قرد أكثر من القرود ... لا تصدق الذين يخبرونك عن آمال ورائية . إنهم يبثون السُّمَّ ، سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا . إنهم يحتقرون الحياة ، إذاً تخلص منهم . كان التجديف على الله في ما مضى من أسوأ الخطايا ، لكن الله مات ، وبالتالي مات معه كل هؤلاء المجدّفين .
ما إن انتهى زردشت من ديباجته ، حتى بدأ الرجل الذي يسير على الحبل المشدود مسيرته فوق الهوة . في منتصف الطريق ، توقف وبدأ يتمايل . وفجأة ظهر خلفه مُهرِّج بلباس ملون وصرخ فيه بشدة :
هيا أيها الأعرج ، انطلق أيها الكسول ، أيها المتطفل ، أيها المريض وإلا دغدغتك لتقع . ماذا أنت فاعل هنا بين البرجين ، مكانك في البرج ، حيث تُحبس فيه ، إنك تقطع الطريق على من هو أفضل منك .
كان المهرج يقترب من الواقف على الحبل شيئاً فشيئاً . ثم صرخ صرخة دموية وقفز فوقه . اهتز الواقف على الحبل بسبب ما فعله المهرج ، وفقد جرأته والعصا التي كانت تحافظ على توازنه ، ثم هوى وسقط على الأرض . وقف زردشت بهدوء قرب الرجل المحطَّم الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ويئن خوفاً من الجحيم .
أجابه زردشت : " أقول لك بصدق إنه لا يوجد أي شيء من ذلك الذي تكلمت عنه . لا يوجد شيطان ولا يوجد جحيم . ستموت روحك قبل جسدك . إذاً لا تخف في ما بعد من أي شيء " . نظر إليه الرجل في عدم ثقة وقال : " إن كنت تقول الحقيقة ، فأنا لست أكثر من حيوان تعلم الرقص بالضرب والإطراء ." قال له زردشت : " أبداً ، فأنت اخترت مهنة خطرة ولا عيب في ذلك . ستقضي الآن بسبب مهنتك ( والمهرج ؟!) ؛ ولهذا السبب سأدفنك بيدي ." حين أنهى زردشت كلامه لم يجبه الميت بكلمة ، بل حرك يده كما لو كان يبحث عن يد زردشت ليشكره .
هذا المثل يُلخص رسالة نيتشه للعالم . كانت رسالته رسالة الإلحاد . هاجم فولتير ( فيلسوف فرنسي ) مرة المسيحية بانتقاد عنيف على ادعائها بأن للحياة معنى ، قائلاً إنها لا تتماشى مع الواقع ، هذا التوبيخ اللاذع معكوس هنا بواسطة التناقض الصارخ للأخبار السارة التي أعلنها نيتشه ، والتي كانت متضاربة بشكل جلي مع الواقع الذي أنجبته فلسفته . فكل ما حصل عليه العالم من هذه الفلسفة هو عصر تميز بأنه الأكثر دموية على مر التاريخ وقد تنبأ نيتشه بذلك فقال : إن كان الإله قد مات فسيكون القرن العشرين هو أكثر القرون دموية في التاريخ وقد كان ، والنبؤة الثانية التي تنبأ بها هي أن حالة من الجنون العام ستتفشى في العالم ، وقد تحققت النبوتان إلا أن المثير للدهشة في تصريح نيتشه حول الجنون العام أنه خطا الخطوة الأولى نحو تحقيق النبوة وأصيب هو نفسه بالجنون . إذ قضى آخر احدى عشر سنة من عمره مجنوناً ، هذا الذي تتلمذ على أفكاره هتلر وستالين وموسوليني وماو 
قال مالكوم ماغريدج الصحافي المتجول الذي جاب الكرة الأرضية لأكثر من ستة عقود في حياته : " لو كان الله ميتاً ، سيأخذ شخص آخر مكانه ، سيظهر جنون العظمة أو الهوس الجنسي ، ستظهر غريزة السلطة أو غريزة المتعة ، سيظهر هتلر أو هيو هافنر ( مؤسس مجلة بلاي بوي الإباحية ) ."
سأقص لكم قصة عن جوزيف ستالين قصها روائي سوفيتي أسمه شينغز آيتماتوف لتوضح فقط أي إنحدار إنحدر له الفكر البشري على ضوء الفلسفة النيتشاوية : " طلب ستالين ، في أحدى المناسبات ، أن يأتوه بدجاجة حية لكي يستخدمها أمام بعض أعوانه كعبرة لا تُنسى ، أمسك الدجاجة بقوة بيد واحدة ، وبدأ بيده الأخرى ينتف ريشها واحدة تلو الأخرى وبطريقة منهجية ، بينما كانت الدجاجة يائسة تحاول أن تهرب منه ، تابع تجريده المؤلم للطير إلى أن أصبح عارياً تماماً . وضع ستالين الدجاجة على الأرض وأبتعد عنها قليلاً وفي يده فتات من الخبز وقال راقبوا جيداً الآن ، وبطريقة عجيبة ، قفزت الدجاجة التي كانت ترتجف خوفاً في إتجاهه وتعلقت بهدب سرواله ، رمى ستالين بحفنة من فتات الخبز إلى الطائر ، وحين بدأت الدجاجة تتبعه في أرجاء الغرفة ، إلتفت إلى أصدقائه المصعوقين وقال بكل هدوء : هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يُحكم الشعب بها . هل رأيتم كيف تتبعتني هذه الدجاجة لكي تأكل ، على الرغم إني تسببت لها في عذاباً أليماً ؟ الشعب يشبه هذه الدجاجة ، إن أفرطت في تعذيبه سيتبعك لكي يأكل كل أيام حياته .
بهذه الطريقة المهينة حط ستالين من قيمة البشر إلى مستوى الحيوانات ، وهو مخمور بالقوة والسلطان ، ولكن ليس ذلك مجال بحثنا .
وكل فلاسفة القرن العشرين شربوا من نفس الكأس مثل سارتر وراسل وغيرهم ولو كنت رأيت فيما كتبوه ما يستحق الكتابة ما تأخرت في كتابته ولكن الجميع يتكلمون بروح واحد ولعل مثل زردشت فيه الغنى عن كثرة الكلام وكيف أخذ من نظرية التطور أساس بنى عليه فلسفته ليزيح عن كاهله الماورائيات والاخلاق ويسكن ضمير السلماء فليس الجميع يبحث فيما وراء الكلام ، فحين تستخدم الفلسفة موهبتها في تنسيق الأفكار وإخراج الكلمات المنمقة والمرتبة لعرض الفكرة لا يجد الإنسان العادي من مفر سوى السقوط في براثن الشكوك . ولكن حين أراد السيد المسيح أن يُرسل مبشرين بأخباره السارة أرسل أناس عاميين ليبشروا المسكونة بأن الله فتح لنا باب الفردوس مرة أخرى متغاضياً عن أزمنة الجهل هؤلاء العاميين الذين قدموا للعالم مثالاً في القانون الأخلاقي الذين شهدوا لرسالتهم بدماءهم الذكية التي سفكوها حتى يصطلح العالم بالله وقد ثبت الله كلامهم بالآيات والمعجزات وليس كلاماً باطلاً كما قال بولس الرسول في الرسالة إلى كولوسى 2 : 8
 اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ. 
وقال أيضاً في الرسالة الأولى إلى كورنثوس الأصحاح 2 : 4
 وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ الْحِكْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالْقُوَّةِ، 
ولكن هل أثبت العلم صحة نظرية التطور ؟ أم اعتنق القرن العشرين كذبة من أكاذيب عدو الخير هذا ما سنعرفه .

أقرأ أيضاً الجزء الخامس ماذا قال العلم عن نظرية التطور 


أقرأ أيضاً الجزء الأول من هو داروين 

أقرأ أيضاً الجزء الثاني  الرؤية الدينية عند داروين

أقرأ أيضاً الجزء الثالث استخدام النظرية لأغراض شخصية

إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu