Ad Code

نظرية التطور بين العلم والدين والفلسفة ١


من هو تشارلز داروين .
ولد تشارلز داروين في انجلترا يوم ٢ فبراير ١٨٠٩ ، عندما بلغ سن السادسة عشر من عمره تسجل إرضاءاً لأبيه في كلية الطب في إدنبره ، كان له رفيق دراسة مُطلع على أفكار لامارك بشأن التحول والتغيير في الكائنات الحية ، وكان الطالب مناضلاً عنها وناشراً لها ، وكان جان باتيست لامارك قد أصدر سنة ولادة شارل داروين ١٨٠٩ كتاباً بعنوان ،فلسفة علم الحياة ، عرض فيه أفكاراً بشأن التحول والتغيير ، يؤكد فيه تتابع الكائنات الحية وفق اتجاه ميكانيكي آلي سائر نحو التعقيد ، فيتكيف الحي مع الوسط البيئي باستخدام بعض الأعضاء أو بالأمتناع عن استخدامها ، ويُظهر هذا التحول تأثير الوسط البيئي على الكائنات الحية .
وكانت هذه الأفكار الجريئة قد شقت طريقها في الوسط الأوروبي وصولاً للمجتمع الإنجليزي .
في سنة ١٨٢٨ تخلى داروين عن دراسة الطب لأنه اشمأز ونفر من تشريح جثث البشر . فانتقل إلى جامعة كامبردج لدراسة اللاهوت ( وفق رغبة والده ) ليؤهله لوظيفة نافذة اجتماعياً ، لكن ميله الداخلي كان يتوجه نحو التخصص في علوم الطبيعة ، وهذا ما دفعه لدراسة الجيولوجيا ( علم طبقات الأرض وتطوراتها ) وكان من الطبيعي يتمعن داروين بفصول كتاب " اللاهوت الطبيعي أو البراهين عن وجود الألوهة وصفاتها " تأليف ويليام بالي سنة ١٨٠٢ ( الكتب لم تكن كثيرة في علوم الطبيعة في ذلك الوقت ) ، واستوعب جيداً النظرية اللاهوتية التي تؤكد أن الطبيعة كلها مخلوقة حسب تصور العقل الإلهي ، وكل ما يحدث فيها يخضع لتصميم العقل الإلهي ، وإرادة سامية تنفذ المخطط بحذافيره .
في السنة الأخيرة من دراسته في كامبردج ، قرأ كتاب " سفر إلى المناطق الأستوائية في القارة الجديدة لألكساندر فن همبولدت ، ونشأت عنده الرغبة " بتقديم مساهمة ولو وضيعة لبناء علم الطبيعة النبيل " .

لسماع المقال على اليوتيوب 👇👇 


هذه كانت بعض المرحل في حياة داروين ، حتى الآن لم يفعل شيء يحبه سوى دراسة الجيولوجيا ولكن دراسة الطب كانت لإرضاء والده ، وقد نفر منها بسبب تشريح الجثث مما يظهر أنه كان رقيق المشاعر فالجراحين الذين يحبون تخصصهم لا ينظرون للجثة كأنها إنسان حي ولكن كنموذج للتعليم حتى يستطيع إنقاذ شخص حي فعلاً في المستقبل وقت الضرورة ، ودراسة اللاهوت لا يكون لإرضاء أحد ولا للحصول على وظيفة وإلا أصبحت سيمونية ( نسبة إلى سيمون الساحر الذي كان يريد شراء موهبة وضع الأيادي لحلول الروح القدس انظر أعمال الرسل " ، هذا غير أنه مُشبع بأفكار غريبة مقدماً عن التطور من أفكار لامارك ، ولا شك أنه كره دراسة اللاهوت في وقت من الأوقات . المرحلة القادمة هي السيل الذي سيضرب البيت ليظهر هل كان مبنياً على الصخر أم على الرمل .
عندما تخرج داروين من كامبردج سنة ١٨٣١ ، أبحر بمثابة عالم طبيعة على سفينة أسمها " بيجل " ليقوم برحلة استكشافية علمية حول العالم لمدة خمس سنوات دامت حتى سنة ١٨٣٦ ، انطلق فيها من جنوبي انجلترا ، عابراً المحيط الأطلسي صوب أمريكا الجنوبية ونزل في أهم مدنها البحرية الممتدة على شواطئ الأطلسي ثم انعطف صوب الشمال في المحيط الهادئ وصولاً لجزر جالا باجوس النائية مقابل البيرو ، واتجه صوب الغرب في المحيط الهادئ وصولاً إلى جزر تاهيتي وإلى نيوزيلاند وبعدها استراليا ثم واصل الرحلة في المحيط الهندي عبوراً بجزر موريس وبعدها رأس الرجاء الصالح في جنوبي القارة الأفريقية ، وانعطف صوب الشمال في المحيط الأطلسي عائداً إلى وسط أمريكا الجنوبية ، ومنها عبر جزر متفرقة في الأطلسي وصولاً إلى نقطة الإنطلاق جنوبي إنجلترا بعد ١٧٤١ يوماً من بعد الرحلة .
" لا يسعني إلا أن أحسد داروين على هذه الرحلة".
كان داروين يصرف معظم أوقات الإبحار على السفينة في القراءة والكتابة ، يدون يوميات الرحلة على دفتر خاص ويوميات الأبحاث على دفتر آخر . في بداية الرحلة قرأ باهتمام كتاب " مبادئ الجيولوجيا " في مجلدين للعالم " شارل لييل " ١٨٣٠ . وأول ما دهشه هو أن عمر الأرض يبلغ حوالي ألفي مليون سنة وكان عند المؤلف موقفاً انتقادياً وثورياً تجاه روايات تدخل الله في الحوادث الطبيعية كالطوفان وبابل وغيرها ( دوكينز القرن التاسع عشر ) ، وفوق كل ذلك وجد إصراراً على أن كل ما يحدث في الطبيعة يعود لعوامل طبيعية صرف ، بطيئة ، متدرجة ، تسير باتجاه واحد في الزمان خلافاً للزمان الدوري .
عندها خطا داروين خطوته الأولى صوب رفضه للفهم الحرفي لنص الكتاب المقدس ، خصوصاً الفصول الأولى من سفر التكوين ، تلك التي تصف تفصيلياً خلق الأنواع الحية وكل ما رافق حوادث الخلق . التزم داروين في أعماله الأستكشافية والتنقيبية مراقبة الوقائع بدقة ، لا شيء إلا الوقائع بأسلوب التجريبية الحسية الإنجليزية ، أي كل حدث بفرديته الطارئة ، يصف كل واحد تفصيلياً ، ويقوم بمقارنات ومقاربات بين الحوادث الفردية ، ثم يعبر عن توقعات او استنتاجات محتملة ولربما يفرض على موقفه قواعد علمية .
ويمتنع عن الإعلان عن واقع إلا بعد أن يتأكد من حصوله أكثر من مرة .
يدون كل ما يلاحظه ، ويعود إلى فحصه تكراراً ليدون ما قد يكون سهي عنه ، ازدادت معلوماته غنىً عندما بدأ باكتشاف المتحجرات داخل طبقات الأرض . استوقفه بدهشة منظر الأحافير بعد أن تأكد من أنها بقايا كائنات عضوية تمتعت بالحياة ، وقد تكون فاجأتها أعاصير الأرض فانطمرت وتحجرت . ولاحظ أيضاً أن بعض الأحافير انقرضت أنواعها ولم تتجدد أمثالها ، وأحافير أخرى تتكاثر في أفراد حية شديدة الشبه بها ، وغيرها أحافير ظهرت أفرادها الحية متطورة كلياً عن سابقاتها . وقد اتخذ من الأحفور وثيقة وحجة أساسية تشهد أولاً على أن عمر الحياة يمتد على مدى أبعد بكثير من الزمان المستوحى في سفر التكوين والمتداول في ثقافة العامة من الناس .
فخطا الخطوة الثانية نحو التحرر من رواية الكتاب المقدس بشأن الخلق والحياة ، وتوقف عند فكرة " الزمان السياق " الذي يُبدع بدون وعي وبلا قصد عاقل ، فتطفر تحولات وراثية ، وتظهر ميزات جديدة ، وتنشأ أنواع جديدة وأخرى تزول.
ومن مراقبة الأحافير في باطن الأرض ، وفي تجواله في الأراضي الشاسعة فاجأته التطورات الكثيرة الطارئة على أنواع الطيور في الأرجنتين ، وأنواع العظاية ( السحالي ) في جزر جالا باجوس ، فنشأت فكرة تطور الأجسام الحية لتتكيف مع البيئة الجغرافية ، وتيقن من أن كل جسم حي يتطور ، أو يأتي نهاية تطورٍ ، وجاء مثالاً على ذلك تكيف الطيور الجغرافي في جزر جالا باجوس . ودون في يوميات الأبحاث : " أن القرابة غير المألوفة التي نلاحظها على القارة ذاتها بين المائت ( الأحفور ) والحي ، مُعدة بلا شك لأن تنير ظهور كائنات عضوية حية على أرضنا قريباً ، وكذلك زوالها ، إنارة أكثر قوة من أي صنف وقائع أخرى ( التراث الديني) " .
وأضاف قائلاً " في سياق سفرة " البيجل " تأثرت تأثراً عميقاً ، أولاً بأكتشاف السهول المعشوشبة بحيوانات ضخمة كبيرة هي أحافير مكسوة بدروع شبيهة بالتاتو الحالية ؛ ثانياً ، بالطريقة التي بها تحل الحيوانات المتقاربة في النوع محل الأخرى كلما تقدمنا نحو جنوبي القارة ؛ ثالثاً ، بالميزة الأمريكية الجنوبية في أكثر انتاجات أرخبيل جالا باجوس وبالطريقة التي يختلف بها قليلاً بعض الأفراد في كل جزيرة عن المجموعة ، فلا واحدة من هذه الجزر تبدو أكثر قِدَماً من غيرها " جيولوجياً" . إنه لواضح أنه لا يمكن تفسير وقائع كتلك ، وكذلك وقائع كثيرة أخرى ، إلا بأفتراض أن الأنواع تتطور تدريجياً . ولقد سيطر على تفكيري هذا الموضوع " .
ولم يكن السلوك الإنساني غائباً من مراقباته في تلك الرحلة ، لقد اكتشف بدهشةٍ التصرفات الإنسانية التي يغلب عليها الطابع الحيواني . 
صادف أناساً كانوا قد تلقوا تربية ثقافية وإعداداً حضارياً في انجلترا ، وأعيدوا إلى بلادهم لينقلوا إلى رفقائهم ما اكتسبوه من تصرفات حضارية في العالم المتحضر ، وخلافاً للتوقعات المنتظرة ، فقدوا هم أنفسهم ما اكتسبوه وعادوا إلى سلوكهم البدائي رافضين أساليب المجتمع الحضاري ، واستنتج من هذا الأختبار أن الإنسان يميل في أعماقه إلى أصله الحيواني ، حتى بعد تقبل تربية حضارية . وقد زاده اقتناعاً من هذا الاستنتاج ، ما سمعه عما قامت به الشعوب الحضارية التي استعمرت الأرجنتين وباقي القارة الأمريكية ، حيث استباحت إبادة المقيمين الأصليين في تلك الأرجاء بالقتل المباشر أحياناً .
وفي هذه الرحلة استحوذ عليه الموضوع البيولوجي لدرجة أن ذهنه صار نوعاً من آلة تنظيم قواعد لمجموعات واسعة من الوقائع ، وبعد مراقبته الدقيقة لما يوجد من شبه تدريجي بين الأنواع الحية في التركيب التشريحي والبنيان العضوي ، لا حظ حصول ترتيب منظم فيما بينها ، ويحتل النوع البشري القمة في الترتيب ، بينما تأتي في الدرجة الدنيا الكائنات العضوية الحية ذات الخلية الواحدة " الأميبا " .

ثم استنتج أن الترتيب القائم بين الأنواع الموجودة يمثل الترتيب التاريخي لظهورها ، فالحياة بدأت بالأميبا ذات الخلية الواحدة وانتقلت خلال ملايين السنين إلى أشكال تزداد تعقيداً على الدوام . 
بعد عودة داروين من الرحلة الأستكشافية ، تعرّف داروين على ابنة خاله " إيما " البالغة من العمر ثلاثين سنة ، المثقفة الحكيمة والمؤمنة ، والتي تتقن لغات كثيرة وتمارس الرياضة وتعزف على البيانو ، تزوجها عام ١٨٣٩ تعلق بها كثيراً واكتشف بفضلها " أنه توجد سعادة تفوق بكثير سعادة بنيان نظريات وتجميع وقائع في الصمت والوحدة " ، " إن أكبر لذة في الحياة هي أن تكون محبوباً ! " .
لكنه سرعان ما اكتشف كم كان ضعف إيمانه وتشكيكه الديني يزعجان زوجته الشديدة الإيمان.
فنشأ بينهما اختلاف روحي عميق أقلق داروين مدى حياته ، حيث كان يشعر بتنازع داخلي بين الأمتناع عن معارضة عزيزته " إيما " ورغبته الداخلية بنشر أفكاره القليلة الأتفاق مع وجود الله . بعد أن لا حظت إيما هذا الواقع الأليم كتبت رسالة بالغة الحكمة والحنان وسلمته إياها نقتطف منها ما يلي : " آمل بأن قاعدة البحث العلمي ، التي تقوم بعدم تصديق أي شيء لم يتم اختباره ، لن تؤثر كثيراً في حكمك على الأشياء التي لا تقبل نوع البراهين ذاته ، وهي إن كانت صحيحة ، يحتمل أن تكون أبعد من فهمنا . أريد أن أقول أيضاً ، هناك خطر إهمال الوحي ، وهو لا يوجد في العلم ؛ ألا تخشى نكران الجميل الموجود في رفض ما صُنع لخيرك ولخير العالم بأسره ؟ يجب أن يجعلك ذلك أكثر فطنة أيضاً ، وأن يخيفك من أنك لم تعمل كل ما في وسعك لكي تحكم بأسلوب مُنصف . لا أدري إن كانت حججي فاصلة وقاطعة جداً ، بين الصح من جهة والخطأ من جهة أخرى - وهذا ما أردت تحاشيهُ ، ولكني لا أظن - لست على اتفاق تام معك عندما تقول أنه لا يوجد أدنى شك في حسن أسلوب العمل . يبدو لي أن الصلاة هل مثال صالح عن العكس .... سأكون آسفة أن يستطيع عزيزي شارل التفكير بأني نسيت وعدي له بأن لا أضجره ، ولكني أعرف أنه يحبني ، ولا أستطيع أن أقول له كم يجعلني سعيدة وكم أحبه بحنان وأشكره لكل عطفه ، هو الذي يصنع كل يوم أكثر سعادة لحياتي " إيما 
في آخر هذه الرسالة التي أحتفظ بها شارل داروين على مدى حياته الزوجية التي دامت ثلاثاً وأربعين سنة ، كتب : " عندما سأموت ، اعلمي أني غمرت مراراً كثيرة هذه الرسالة بقبلاتي ودموعي ". بالفعل أثرت فيه تأثيراً عميقاً ، فلزم في كل كتاباته حدود النهج العلمي كعالم بيولوجيا واحترامه العميق لإيمان إيما . أما ما جاء في سيرته الذاتية بخصوص تشكيكه بوجود الله ، فقد بقي سراً مكتوماً لسنين كثيرة حتى بعد مماته  .
هذا كان ملخص لأهم مراحل حياة تشارلز داروين صاحب أكتشاف المنهج العلمي لنظرية التطور فقد سبقه كثيرين مثل العالم الفرنسي لامارك الذي سبق الإشارة إليه وكذلك أرازموس داروين وهو جد تشارلز داروين وعاصره كثيرين أيضاً ففي يونيو سنة ١٨٥٨ تلقى مخطوطة من عالم بريطاني آخر يعيش في جزر الهند الشرقية اسمه الفريد راسل والاس تتحدث نظريته " أي نظرية والاس " عن التطور ، وكان كل ما أهتدى إليه والاس هو ما أكتشفه داروين ، وقد اهتدى والاس إلى هذه النظرية ووضحها ودعمها بالأدلة وبعث بها إلى داروين بصفته واحد من كبار العلماء في ذلك العصر ، وقُدِمت مخطوطة والاس وقَدَم أيضاً داروين عرض موجز لنظريته لإحدى الهيئات العلمية . ولكن هذا الحدث لم يثر اهتمام أحد في ذلك الوقت ، غير أن الضجة الكبرى حدثت عام ١٨٥٩ حينما قام داروين باصدار كتابه الشهير " أصل الأنواع " ، لاقى هذا الكتاب يوم صدوره بالذات نجاح منقطع النظير ، لدرجة أن نُسخ الطبعة الأولى ، ألف ومائتين وخمسين ، بيعت جميعها في اليوم ذاته .
ومن ما سبق سرده ربما أوحت لنا الاحداث التي مر بها تشارلز داروين على عوامل تكوين شخصيته وهذا ما سيظهر بوضوح على نظرته الدينية وما كتبه في سيرته الذاتية من شكوك .
وسنلخص حياة داروين في أنه رقيق المشاعر لأنه أشمأز من التشريح ، يطيع والده على حساب نفسه ، ويفعل أشياء هو يكرهها إرضاءاً له ، منفتح على أفكار غريبة مجتمعياً ودينياً ، ونحن في بحثنا لا نتجنى عليه بل نستنتج وربما كنت مخطئ وربما أكد ما سيأتي أستنتاجي في المقالة القادمة الرؤية الدينية عند داروين 



لقراءة الجزء السابق من هنا

إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu