Ad Code

فلورنس نايتنجيل حاملة المصباح رائدة مهنة التمريض



هل مرضت يوما ودخلت المستشفى ؟ ..
او هل زرت يوما صديقا لك مريضا فى احدى المستشفيات ..؟
هل لاحظت الهدوء فى هذا المستشفى ، وان كل شئ نظيف ومرتب ..!
هل لاحظت الممرضات فى ملابسهن البيضاء وهن يتنقلن من سرير الى سرير ليرعين المرضى ، وينفذن أوامر الاطباء ..!
لكن المستشفيات لم تكن دائما فى مثل هذا الحال .
ولم تكن الممرضات على مثل ما هن عليه الآن ، وكان الناس يخافون دخولها .
اما السبب فى هذا التغير العظيم الذى حدث ، فيرجع بصفة رئيسية الى فتاة شابة ، اسمها * فلورنس نايتنجيل * وكانت تسمى ايضا " حاملة المصباح "

١- بداية حياتها .
فى سنة ١٨٢٠ ، وفى مدينة فلورنسا بايطاليا كان والدا فلورنس مستر ومسز نايتنجيل يقومان بجولة فى اوروبا حيث وضعت الام طفلة اطلقوا عليها فلورنس وهو اسم المدينة الايطالية بالانجليزية 
وكان للوالدين ابنة اخرى عمرها سنتان اسمها بارثينوب او 《 بارثى 》 وهو اسم مدينة نابولى بايطاليا باللغة اليونانية ذلك لان هذه الابنة ولدت هى الاخرى فى هذه المدينة .
كان الوالدان من الطبقة الراقية ، كانت الام سيدة جميلة مرحة تحب الحياة الممتلئة بالمباهج والاشياء السارة ، اما الاب فكان رجلا لطيفا طيبا يقضى ايامه فى صيد الحيوانات وصيد الاسماك ، او فى قراءة الكتب والسياحة فى مختلف البلدان ، وكان ثريا لديه من الاموال ما يغنيه عن القيام بأى بعمل جاد .
برغم كل هذا لم تكن الصغيرة فلورنس تشعر بالسعادة رغم ان بيتها كان حافلا بكل المسرات . فلديها هى واختها مجموعة من الخيول والكلاب والقطط والطيور الملونة ، وترى ان الحياة فى بيت ابيها ليست هى الحياة التى تريدها لنفسها .
كانت الاختان بارثى وفلورنس تتلقيان دروسهما فى البيت على يدى الاب واحدى المدرسات التى كانت تحضر الى البيت لتعليم البنتين . ولاحظ الاب منذ البداية ان بارثى غير مقبلة على الدروس وانها كانت تفضل البقاء مع امها فى غرفة المعيشة ، على عكس فلورنس التى كانت تفضل الجلوس مع ابيها فى المكتبة لتلقى المزيد من العلم والمعرفة .

٢- اصوات تناديها .
فى سن السابعة عشر حدث شئ هام جدا فى حياتها ..
ففى احدى الاوراق التى كتبتها فلورنس ، اذ كانت كثيرا ما تكتب افكارها ومشاعرها وكل ما يدور بعقلها ويعتمل فى صدرها على الورق  ومازال الكثير من هذه الوريقات محفوظ حتى الان .
كتبت ما يلى 《فى ٧ فبراير ١٨٣٧ سمعت صوتا ينادينى من السماء ويدعونى لكى أكرس حياتى لخدمة الرب 》. ولم يكن الصوت حلما من الاحلام ، انما كان صوتا حقيقيا وصفته فلورنس بانه كان صوتا عاليا ينطق الكلمات بوضوح . ربما تقول ان ذلك ليس غريبا لفتاة فى السابعة عشر ، ولكن فلورنس بعد اربعين سنة من هذا التاريخ كتبت فى مذكراتها انها سمعت هذا الصوت أربع مرات خلال حياتها .لكن هذا الصوت لم يوضح لها كيف تقوم بهذه الخدمة ، او ما هو نوع الخدمة وكيفية ومكان ادائها ..وكانت فكرة التمريض بعيدة تماما عن عقلها فى ذلك الوقت . وكتبت فلورنس ايضا انها اصبحت تحس بالسلام النفسى بعد سماع هذا الصوت وانها كانت على يقين من سماع هذا الصوت مرة اخرى .

٣ - التجارب الأولى .
حدثت مناسبتان جعلتاها تؤمن ان طريق حياتها هو الخدمة فى المستشفيات والعناية بالمرضى . فقد مرضت جدتها لأمها فقامت برعايتها . كما مرضت سيدة عجوز أخرى كانت تخدم فى المنزل لمدة طويلة فقامت برعايتها هى الاخرى . ثم بدأت ترعى المرضى الآخرين من اهالى القرية التى كانت تعيش فيها . وتعلمت شيئا هاما ، ان التمريض أمراً قاصراً على النساء فقط . ويجب على السيدة او الفتاة التى تمارس التمريض ان تكون طيبة وعطوفة ولا تمل من مساعدة المرضى .
وقد اقتنعت فلورنس ايضا بضرورة ان تكون الممرضة مؤهلة ومدربة على القيام بواجباتها . ولكن الاهم كيف تحصل هى نفسها على هذا التأهيل والتدريب ، وفجأة خطرت على بالها فكرة تتعلق بهذا الموضوع فعلى مقربة من البيت هناك مستشفى ومدير هذا المستشفى صديق لعائلتها ، وان عليها الآن ان تطلب من العائلة ان تسمح لها بالعمل فى هذه المستشفى لمدة ثلاث اشهر تتعلم فيها التمريض . وما ان اعلنت فلورنس رغبتها هذه لاسرتها حتى هبت عاصفة عاتية من البؤس والتعاسة . فقد استاء الاب وتكدر صفوه . اما امها فقد وقع عليها هذا الخبر وقع الصاعقة واصابتها نوبة من الغضب ، ثم انفجرت باكية ؟! 
ابعد كل المجهود الذى بذل فى تعليمها وكل السياحات فى اوروبا وكل الملابس الجميلة التى اشتروها لها من باريس تاتى هذه الشابة وتقول انها تريد ان تصبح ممرضة ؟!!! 
الجميع اصبح ضدها .. لقد احست بالضياع وفقدت شجاعتها . وكتبت عن هذه الفترة تقول :-
《 لم اعد اجد مبررا لاستمرار الحياة .ولن اجد شيئا آخر لاعمله . اننى أقل شأناً من التراب . اننى لا شئ على الاطلاق ..! 》
٤ - المستشفيات فى الماضى .
قد يكون من السهل الآن ان نلوم والدى فلورنس لوقوفهما ضد رغبتها ، ولكن يجب ان لا نتسرع ففى ١٨٤٥ كانت المستشفيات من الاماكن المخيفة .. مملوءة بالقذارة والفوضى ، ومزدحمة بالمرضى والالام ، وتنبعث منها روائح كريهة لا تطيقها الأنوف . 
هناك نحو خمسين او ستين سريرا متجاورة بين كل منها مسافة ضيقة لا تتجاوز نصف المتر . وليس فيها سوى مدفأة واحدة فى احد الاركان تستخدم فى فصل الشتاء . وجميع النوافذ مغلقة وكان المرضى من افقر الفقراء الذين يعيشون فى أفقر احياء المدينة . وكانوا يلجأون الى المستشفى وهم فى منتهى القذارة ويبقون بها وهم فى منتهى القذارة ثم يخرجون منها _ ان بقوا على قيد الحياة _ وهم فى منتهى القذارة .. وكثيرا ما كان المرضى يتصارعون ويتشاجرون فيما بينهم ، ويسكرون بشرب الخمور الرخيصة ، وكثيرا ما كان البوليس يتدخل لفض المنازعات واقرار النظام . بالاضافة الى اسوء شئ على الاطلاق .. الممرضات .. وهن نساء جاهلات لا يعرفن شيئا عن التمريض اخلاقهن سيئة ويسكرن بشرب الخمور الرخيصة طوال الوقت . وتقول فلورنس ان رئيسة الممرضات فى احدى المستشفيات الكبيرة اخبرتها انها طوال عمرها لم ترى ممرضة لا تشرب الخمر حتى تسكر وتفقد وعيها . 
ومرت ثمانى سنوات منذ ان اعلنت فلورنس رغبتها للعمل كممرضة ووقوف اسرتها فى وجه هذه الرغبة ، كانت سنوات صعبة ولكنها كانت مصرة ورفضت بالتالى الزواج من شاب كانت تحبه ويحبها ، اذ كيف تتزوج وتترك الخدمة التى دعاها اليها صوت السماء .
وخلال تلك السنوات اهتمت بالقراءة عن المستشفيات واحوالها السيئة المتردية ولكى تزيد من حصيلتها من المعرفة بمختلف انواع الامراض ، ثم تنضم بعدئذ الى اسرتها لتعيش معهم الحياة العائلية العادية 
٥ - بداية تحقيق الامل 
فى احدى المرات وبينما كانت الاسرة فى احدى الرحلات الى المانيا ، وبدون إذن والديها ، عملت فلورنس  فى احدى المستشفيات .. وكانت كل يوم تزداد خبرة ومعرفة بأحوال المستشفيات واحوال المرضى . وفى ربيع عام ١٨٥٣ ، دعيت فلورنس  للإشراف على ملجأ للعجائز من النساء الفقيرات اللاتى لا يملكن أجر العلاج بالمستشفيات . وكانت الجماعة التى تدير هذا الملجأ قد قررت نقل الملجأ الى بيت اخر وكانت تبحث عن متطوعة لتقوم بهذا العمل وتكون مشرفة على عامة على الملجأ.
وبدون موافقة اهلها ، اتفقت فلورنس على ان تقوم بهذا الدور دون مقابل بشرط ان توافق الجماعة على تنفيذ ما تراه وتقرره .
وكان ابوها قد خصص لها خمسمائة جنيه سنويا كمصروف شخصى لها . وقد ساعدها هذا ان تبدأ عملها على الفور .
أصبحت تقون بمئات الأعمال ، من العناية بالمريضات ، الى تلبية طلباتهن العديدة والمتنوعة ، الى إعداد الطعام ، وتسوية الأسرة والفراش ، الى وضع الفحم فى المدفأة الى اخر تلك الاعمال الشاقة . ولكنها مع ذلك كانت راضية سعيدة بها .
اما السيدات المريضات فى هذا الملجأ ، فقد احببنها حبا جما ، وقد عبرن عن هذا الحب فى بعض الخطابات التى أرسلنها اليها .. فهناك خطاب يقول 《يا أعز انسان واطيب انسان .. الأنسة نايتنجيل .. إنى أرسل لك بعض سطور من الحب .. 》
واخر يقول 《شكرا لك .. لقد كنت شمسنا المشرقة التى تحنو علينا ..》
بالإضافة الى الصفات الودية التى كانت تتميز بها فلورنس تميزت ايضا بعزيمة صلبة وقدرة فائقة لجعل الناس يتعاونون مع بعضهم وينظمون اعمالهم على خير وجه 
٦ - بداية حرب القرم 
 نشبت حرب بين انجلترا وروسيا ، وأرسل الجيش البريطانى الى القرم على البحر الاسود لمحاربة الجيش الروسى . وكان مقر قيادة الجيش البريطانى فى قرية سكوتارى وهى قرية كبيرة بالقرب من استانبول . وكان الجنود التنجليز يحاربون بشجاعة برغم ما ينقصهم من الكثير من المستلزمات . ومن عدم وجود اطباء او رعاية طبية لجرحى المعارك ، وكان آلاف من هؤلاء الجرحى يسقطون دون ان يهتم احد بهم ، وكان اغلبهم يموتون بسبب الإهمال فى معالجة جروحهم . فقد كان هؤلاء الجرحى يرقدون فى صفوف طويلة دون طعام او ماء او علاج . وسقوط الجرحى فى المعارك الحربية امر معتاد فى الجيوش . ولكن الشعب الانجليزى لم يكن يعلم الحالة البائسة التى يعانى منها الجرحى . الى ان قام كاتب مشهور فى احدى الجرائد الهامة التى تصدر فى لندن بزيارة ميدان الحرب ، ورأى الاحوال السيئة فى المعسكرات والمستشفيات الميدانية ، فوصف الكاتب كل ما رآه من أهوال ، ونشرت جريدته قصصا مخيفة تقشعر لها الأبدان . وبمجرد نشر هذه المقالات فى الجريدة اللندنية ، غضب الشعب الانجليزى غضبا شديدا ، وتسائل من المسئول عن هذا الخطأ الكبير وأخذ يلوم المسئولين فى الحكومة وكان من ضمن الملومين شخص يدعى سيدنى هربرت وكان يشغل وظيفة حكومية هامة وكان فى نفس الوقت صديقا لفلورنس نايتنجيل وكان يعلم انها تعرف الكثير عن شئون المستشفيات وطرق رعاية المرضى ، فأرسل لها خطابا مفصلا يعرض فيه افكاره ، وقال فيه :-
《ان المستشفى الميدانى فى سكوتارى فى حاجة شديدة الى ممرضات .. لان الجرحى هناك يعانون كثيرا من عدم الرعاية .. وانى اعرف ان هناك عددا لا بأس به من السيدات والآنسات يرغبن فى التطوع كممرضات ، ولكنهن لا يعلمن اى شئ عن التمريض وليس لديهن اى فكرة عن المستشفيات ، أو عن الواجبات المطلوبة منهن .. وانى اعرف ان هناك شخصا واحدا فى انجلترا كلها يستطيع ان يقوم بحل المشكلة .. هو انت  .. انت وحدك تستطيعين ان تختارى هؤلاء الممرضات وتوجهيهن الوجهة السليمة لأداء عملهن على اكمل وجه .. وانا اعرف انها مهمة صعبة ، فما رأيك .. هل تقبلين القيام بهذا الواجب .. وانى على يقين بانك ستقررين الأمر بحكمة ..وادعو الله ان يكون جوابك بالموافقة 》
٧- تلبية النداء 
كانت عيون الشعب الانجليزى كلها متجهة حيث يوجد الجيش فى سكوتارى ومعنى هذا انه لو فشلت النساء فى العمل كممرضات ورعاية المرضى فلن تقوم لفكرة فلورنس اى قائمة وهكذا كان لزاما عليها ان تقبل الدعوة وان تفعل ما فى وسعها لضمان نجاحها ، وكانت المشكلة تكمن فى اختيار الممرضات المطلوبات . ولم يكن هذا بالعمل الهين ، خصوصا لضيق الوقت ، وعلى اية حال فقد جمعت فلورنس ثمانى وثلاثين سيدة بعد ان استبعدت الشابات الصغيرات وكان بعضهن على دراية بسيطة بأصول العمل وجميعهن قد تقدمن لهذا العمل ليحصلن على أجر أعلى مما يحصلن عليه فى انجلترا ، وبسرعة فائقة اعدت لهن ثيابا خاصة موحدة الشكل ورمادية اللون وخالية من الجمال والشياكة ، وكانت هذه أول فرقة من ممرضات الآنسة نايتنجيل
٨ - فى تركيا
هكذا رحلت فرقة الممرضات الى فرنسا عبر بحر المانش ، ثم أخذت القطار الى جنوب فرنسا ومن هناك ركبن سفينة متجهة الى استانبول ، وكانت رحلة عاصفة ، فقضت فلورنس اغلب الوقت راقدة فى الفراش تعانى من دوار البحر . وصلن الى استانبول فى نوفمبر ١٨٥٤ وشاهدن المستشفى الميدانى لأول مرة ، كان المبنى من الخارج يبدو ضخما وذا منظر خادع ، فقد كان فى الاصل معسكرا للجنود الاتراك وتحول الى مستشفى لظروف الحرب ، اما من الداخل فقد كان الامر سيئا الى ابعد حد ، فهناك فناء واسع جدا تحف به من جميع الجوانب حجرات وقاعات لا حصر لها ، كلها ذات ارضيات محطمة وحوائط تنضح منها الرطوبة . كانت احد اجزاء هذا المبنى قد تعرضت لحريق وأوقف استعماله اما الجزء الثانى فكان معسكرا للجنود ، والجزء الثالث اصطبلا للخيول ومحلا لشرب القهوة والنبيذ ، والاسوأ من هذا كله عدم وجود مياه صالحة للشرب ، كما ان انابيب مجارى الصرف الصحى كانت معطلة تماما وغير صالحة . وكان عدد الجنود الذين يموتون بسبب الأمراض التى يصابون بها فى المستشفى اكثر من الذين يموتون فى المعارك الحربية . وكان الجنود الجرحى متناثرين فى كل مكان ولا يشرف عليهم احد على الاطلاق وقد أقبل فصل الشتاء والمستشفى خال تماما من اى مؤن او مستلزمات او معدات . ولا توجد به حتى ادوات الطعام ، وكانت القواعد ان يصطحب المحال الى المستشفى أمتعته وملابسه وأدواته وعهدته كاملة ، ولكن كيف يصطحب جندى جريح كل هذا وكيف يحافظ عليه اثناء استعار المعارك الحربية بما فيها من اضطراب .ولكن هذه كانت الأوامر يجب ان ان تحافظ على عهدتك .
٩ - استقبال بدون ترحيب 
خصصت للآنسة نايتنجيل وممرضاتها الثمانية والثلاثين ثلاث حجرات ضيقة ، كان يشغلها ثلاث اطباء .. كانت حجرات قذرة ليس فيها سوى الفئران والحشرات وثلاثة من المقاعد وجثة ضابط روسى قتيل . لم يرحب الأطباء اطلاقا بهن  وكانوا يقولون دائما : من أحضر هؤلاء الى هنا ؟! وماذا يمكن ان تفعل مجموعة من النساء وسط الجنود الجرحى ؟! .
وتجاهل الاطباء وصول الممرضات ، وقرروا عدم التعامل معهن ، وصممت فلورنس على عدم بدء العمل الا بعد قبول الاطباء لوجودهن من حيث المبدأ ذلك لان الواجب الاول على الممرضة ان تنفذ تعليمات الطبيب . وهكذا مر اسبوع لم يفعلن شئ سوى اعداد الأربطة وتجهيزها لتضميد الجروح فى انتظار استدعاء لهن من جانب الاطباء .. وكانت حالة المطابخ فى منتهى السوء ، كان الطباخون يلقون بقطع كبيرة من اللحم فى قدور ضخمة يوقدون تحتها النار ، وعندما يظنون ان اللحم قد نضج كانوا يأمرون مساعديهم بإطفاء النار ثم يقومون بالتوزيع كيفما اتفق فبعضهم يحصل على قطعة ناضجة وأخرون يحصلون على قطع نيئة وكثيرون يحصلون على قطع من العظم الخالص اما اغلبية الجنود فلم يكونوا يحصلون على شئ ، والخضروات كان من النادر وجودها ، اما الشاى فكان امره مروعا ، كانوا يغلونه فى نفس الاوعية الضخمة التى يسلقون فيها اللحم دون غسلها ، ولذلك كان مذاقه مريعا لا يمكن ان يشربه احد .
واخيرا سمحوا لفلورنس وفرقة الممرضات ان يدخلن المطابخ ليشرفن على اعداد الطعام والتأكد من طهيه بطريقة مناسبة . وكان هذا اول عمل قمن به بهذا المستشفى .
١٠ - بداية العمل
وفجأة حدث تغير كبير فقد ساءت الامور فى القرم حيث تدور المعارك ، وبدأت افواج من الجنود المرضى يصلون المستشفى فأمتلأت بهم كل حجرات المستشفى وكل قاعاتها . وتمددوا فى صفوف طويلة متراصة على الارض ، واصبحت المستشفى فى حالة يرثى لها . اما الاطباء فكانوا يعملون كالاسود وكانوا يظلون واقفين على أرجلهم لاربع وعشرين ساعة متوالية ، محاولين فحص اكبر عدد ممكن من المرضى والجرحى ولكن بلا جدوى . فهناك نقص شديد فى الأغطية ومفارش الاسرة ونقص شديد فى تجهيزات المستشفى ومستلزماتها . وعندما يئس الاطباء تماما وأصبحوا عاجزين عن ملاحقة هذه الحالة المتدهورة ، قرروا أخيرا الاستعانة بالآنسة فلورنس وفرقتها .
وما ان شرعت فى العمل حتى بدأت الامور تتحسن رويدا رويدا وفهم التطباء اخيرا ان هناك شخصا واحدا يستطيع ان ينقذ الموقف بما معه من نقود وأموال ، وبما فى شخصيته من قوة وقدرة على وضع الامور فى نصابها السليم هذا الشخص هو الآنسة فلورنس !
كانت الارض فى منتهى القذارة فأشترت مائتى فرشاة لمسح الأرض والبلاط ، وكانت ملابس الجنود فى منتهى القذارة فاستأجرت بيتا واستأجرت مجموعة كبيرة من النساء الأتراك ليغسلن ملابس الجنود كما اشترت من اسواق استانبول جميع المستلزمات الاخرى.
وفى شهر ديسمبر وصلت اخبار بان نحو ستمائة جندى فى طريقهم الى المستشفى ولم يكن هناك مكانا خاليا الا القسم المهجور الذى تعرض للحريق فيما قبل . فأخذت كل شئ على عاتقها واستأجرت نحو مائتين عامل انجزوا العمل فى اقل وقت وعندما وصل الجرحى لم يكونوا ستمائة فقط بل ثمانمائة او اكثر وكان لكل واحد منهم سريره الخاص ليرقد عليه .
وكان من النادر ان تغادر مبنى المستشفى حيث كانت تقضى فيه طوال الليل والنهار .وعندما كانت تصل افواج جديدة كانت تستقبلهم بكثير من الود واللطف والعطف . وكانت محل اعجاب وتقدير جميع الجنود . لقد استطاعت ان تجعلهم يكفون عن السب ونطق الالفاظ القبيحة فى احاديثهم . وجعلت بعضهم يكف عن شرب الخمر ، كما عاونتهم وشجعتهم على الكتابة الى اهليهم فى الوطن . بل وكانت تشجعهم على تحمل الالم حين كان الاطباء يجرون لهم العمليات الجراحية .
وكانت عيون المرضى والجرحى تتتبعها وهى تمر ليلا بين الحجرات لتطمئن على من فيها ، وهى تحمل فى يدها المصباح الذى اشتهرت به .
١٢- زيارتها للمستشفى الميدانى فى القرم 
بعد حلول الربيع . ذهبت فلورنس الى منطقة قريبة من ميدان الحرب تدعى بلاكافا لزيارة المستشفى الميدانى وبعد فترة قصيرة من وصولها اصيبت بحمى خطيرة فظلت راقدة لمدة اسبوعين بين الحياة والموت . وحزن الجنود الجرحى والمرضى الذين فى بلاكافا حزنا شديدا اما الذين فى سكوتارى فقد اداروا وجوههم نحو الحائط وأخذوا يبكون ويدعون لها بالشفاء . وعندما وصلت اخبار مرضها الى انجلترا استقبلها الشعب بأسف شديد .. ولكن بعد وصول انباء قرب تماثلها للشفاء كان الناس يهنئون بعضهم بتلك الانباء السعيدة . وعندما استعادت قدرتها على الحركة رجعت مرة اخرى الى سكوتارى .
١٣- الأوقات العصيبة 
ظهر لفلورنس اعداء فى كل مكان .. ذلك لان التقارير التى كانت قد وصلت الى انجلترا عن سوء حالة الجنود وتدهور حالة المستشفيات الميدانية . اثارت عاصفة من الشكاوى . الامر الذى أدى الى غضب كبار الاطباء وكبار الضباط فى سكوتارى فاخذوا يوجهون اللوم الى فلورنس ويكتبون التقارير ضدها وضد طريقة عملها وأخذوا يعملون على ترحيلها . وقاومت هى كل هذه المحاولات بعزم وصلابة ، بل اضافت على اهدافها اهداف اخرى تتعلق بتحسين أوضاع الجنود العاديين ، فقد كان الضباط فى بعض الاحيان يعاملون جنودهم كما لو كانوا حيوانات . لقد آمنت فلورنس بضرورة مساعدة جنود الجيش ، وبالرغم من معارضة بعض الضباط ، افتتحت ركنا للقراءة والاطلاع وخصصته للجنود الذين يستطيعون الحركة اثناء علاجهم ، وعندما ارادت استخدام مدرس ليعلم الاميين مبادئ القراءة والكتابة رفض الضباط وقالوا لها ، انت تفسدينهم يا آنسة ، وقد لاحظت ان الجنود يصرفون مرتباتهم على شرب الخمر لانهم لا يستطيعون تحويل مرتباتهم الى اهليهم فخصصت يوما فى الاسبوع لتلقى الاموال التى يريد الجنود تحويلها الى اسرهم وارسالها الى انجلترا لتسليمها الى اسر وعائلات الجنود فى جميع انحاء انجلترا ، وبفضل هذا تحسنت صورة الجندى امام نفسه وامام ضباطه وامام المجتمع ككل واختفت تماما وبغير رجعة صورة الجندى السكير العربيد المستهتر  .
وفى ابريل ١٨٥٦ انتهت الحرب بين انجلترا وروسيا ، وما ان حل شهر يوليو حتى رحل اخر جندى فى المستشفى عائدا الى انجلترا وهكذا اتتهى عمل فلورنس فى حرب القرم واستعدت هى الاخرى للعودة الى بيتها .
١٤ - العودة الى البيت 
كانت انجلترا كلها تريد تكريمها . ولكن فلورنس لم تكن راغبة فى ذلك وركبت سفينة عادية دون ان تعلن عن شخصيتها الحقيقية واطلقت على نفسها اسم الأنسة سميث . عندما عادت الى البيت كانت مرهقة ومنهوكة القوى ومريضة لقد قضت فلورنس نحو عامين فى سكوتارى وعندما رجعت الى انجلترا كانت فى السادسة والثلاثين وما زالت امامها سنوات طويلة من العمل فى ميادين اخرى . مرت عليها سنوات طويلة وهى مريضة تلازم فراشها وسنوات طويلة اخرى تعمل فيها ليل نهار تزور المستشفيات وتضع الخطط لمساعدة المرضى والفقراء من الناس وتقابل المسئولين فى الحكومة لتقدم اليهم التقارير التى كتبتها والحلول التى تراها لاصلاح الاحوال . وكان اهم هدفين فى حياتها هما تحسين احوال الجنود العاديين فى الجيش . وان تجعل مهنة التمريض مهنة جديرة بالاحترام ، وقد نجحت فى هذين الهدفين الى حد كبير فى انجلترا وبقية العالم المتمدين . وبفضلها اصبحت مهنة التمريض على ما هى عليه الان وانشئ معهد نايتنجيل لتدريب الممرضات قرب اكبر مستشفى فى انجلترا . وقد تخرج منه الالاف من الشابات كان لهن اكبر الاثر فى تطوير مهنة التمريض والخدمات الطبية فى مستشفيات انجلترا واعتبرن نموذجا تحتذى به فى كل مستشفيات العالم .
وقامت فلورنس بتأليف كتاب صغير عن تدريب الممرضات مازال بعضه صالحا حتى اليوم ، اما الان فقد طرأت كثيرا من الوسائل الحديثة فى علم التمريض ، ولكن على ايامها كان يعتبر كتابها طفرة كبيرة فى التطور من حال الى حال افضل لذلك طبع منه فى انجلترا الاف من النسخ وزعت على المصانع والورش والمناجم والقرى والمدارس كما ترجم الى عدة لغات اوروبية .
ظلت تعمل لسنين طويلة وكرمها الملوك والملكات وكبار رجال الحكومة . وبمرور السنين .. قلت قدرتها على العمل .. وماتت فى هدوء فى بيتها ، وكان عمرها وقتئذ تسعين سنة ! 
وعلى قبرها نصب حجرى صغير ، كتب عليه :- 
                           (     ف .ن     )
                   (ولدت ١٨٢٠ ...ماتت ١٩١٠)

إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu