العالم السفلي
ظلمة .. لكنها ظُلمة منظورة ، كما لو كنت مغموراً في الوحل لكن أستطيع أن أرى من خلاله . أو ربما يمكن وصفه بشكل أفضل بأنه هلام غير نظيف ، شفاف ، لكنه معتم وضبابي ، بطريقة خانقة تعطي شعور برهبة الاحتجاز .
وعي .. لكن وعي بدون ذاكرة أو هوية ، كحلم تعرف فيه ما يحدث حولك ،لكنك لا تعرف من ، أو ماذا تكون.
صوت .. قرع متواتر ، عميق ، بعيد لكنه قوي ، لدرجة أن مل نبضة منه تَعبُر من خلالك . تشبه قليلاً نبض القلب ، لكن أكثر كآبة وميكانيكية ، مثل صوت معدن مقابل معدن ، كما لو أن حداد عملاق يعمل تحت سطح الأرض يدق سندان في مكان بعيد ، ويدقه بقوة لدرجة أن الصوت يرسل ذبذبة عبر الأرض ، أو الوحل ، أو أياً كان المكان الذي كُنت به .
على أية حال ، لم يكن لدي جسد أدركه . كنت ببساطة .. موجود هناك ، في ذلك المكان ذو الظلمة النابضة ، لم أكن أعرف هناك أي كلمات على الإطلاق . اللغة ، والمشاعر ، والمنطق ، لم يكن لهم وجود ، كما لو كنت قد رجعت إلى الحياة البدائية ، أو صرت كتلك البكتيريا البدائية ، التي التهمت عقلي وأتلفته .
كم من الوقت أمضيت في هذا العالم ؟ ليس لدي أي فكرة . عندما تذهب إلى مكان ليس فيه شعور بالوقت ، يصبح من المستحيل أن تُقدَّر الوقت . لكن وأنا هناك ، كنت أشعر كما لو كنت دائماً هناك وسأظل دائماً هناك .
لم يضايقني ذلك على الأقل في البداية . ولماذا يضايقني ؟ كانت هذه الحالة الوحيدة التي عرفتها للوجود هناك على الإطلاق . فبما أنه ليس لدي ذكريات لشيء أفضل ، فلم أكن منزعجاً من المكان الذي كنت به . أتذكر أنه خطرت على بالي فكرة إن كنت سأنجو أم لا ، لكن عدم مبالاتي بهذا منحني شعوراً كبيراً بالأمان . كُنت أجهل القوانين التي تحكم هذا العالم الذي أنا فيه ، لكن لم اكن متعجلاً لأعرفها . فلماذا أهتم ؟ .
في مرحلةٍ ما استطعت أن أُدرك أن بعض الأشياء التي توجد حولي تشبه الجذور ، كما تشبه الأوعية الدموية في رحم واسع ، متوهجة بلون أحمر داكن ، كانت تمتد من مكان بعيد جداً بالأعلى إلى مكان مساوي له في البُعد لأسفل . عندما أُعيد التأمل في كل هذا ، أراني كدودة أرض ، مدفونة بعمق في الأرض ومع ذلك تستطيع بطريقةٍ ما أن ترى المنابت المتشابكة للجذور والأشجار التي تحيط بها .
لذلك دعوت هذا المكان " عالم منظور دودة الأرض " . وكنت أشك أن ما رأيته قد يكون ترجمة لما يحدث لمخي أثناء مهاجمة البكتريا له . لكن كلما فكرت أكثر في هذا التفسير ، كلما قل اقتناعي به . لأنه بالرغم من صعوبة تخيل هذا المكان لمن لم يراه بنفسه ، إلا أنه كان يوجد وعي ، ربما محدود لكن ليس مشوش . لم أكن إنسان عندنا كنت في ذلك المكان . كما لم أكن حيواناً . كنت شيئاً بدائياً ، أدنى من كل ذلك .
كنت ببساطة نقطة وحيدة من الوعي في بحر أحمر ، بني سرمدي .
كلما طالت مدة اقامتي في هذا المكان ، كلما بدأتُ أقلق . في البداية كُنت مغموراً فيه بعمق لدرجة أنه لم يكن هناك فرق بيني وبين العناصر التي تحيط بي ، تلك العناصر التي يبدو بعضها مخيف من ناحية ، وبعضها مألوف من ناحية أخرى . لكن بالتدريج ترك هذا الشعور بالانغماس العميق ، مكاناً لشعور آخر بأنني لست فعلاً جزءاً من هذا العالم التحتي على الإطلاق ، لكنني كنت عالق به .
وجوه حيوانية غريبة كانت تبرز من الوحل ، تئن أو تصرخ ، ثم تختفي مرة أخرى . وكنت أسمع بين الحين والآخر زئير غير واضح . وأحياناً كانت أصوات الزئير هذه تتحول إلى أناشيد متواترة خافتة ، مرعبة لكنها مألوفة كما لو كنت في وقتٍ ما أعرفها وأُنشدها بنفسي .
بما أنني كنت هناك بلا أدنى ذاكرة لوجود سابق ، فلا أستطيع أن أُحدد المدة التي أمضيتها في هذا العالم ، لكنها كانت طويلة جداً . ربما كانت شهور ؟ سنوات ؟ أبدية ؟! .. بغض النظر عن الإجابة ، فأنا في النهاية وصلت لمرحلة طغى فيها الشعور المُروع على الشعور المُريح . كلما زاد شعوري بأنني منفصل عن كل ما هو بارد ومُبتل ومُظلم حولي ، كلما ازدادت الوجوه التي تبرز من الظلمة بشاعة وتهديداً ، وكذلك زادت حدة وقوة صوت القرع المتواتر البعيد ، وصار كأنه إيقاع رتيب مستمر لطبول جيش من العمال تحت الأرض من الكائنات العجيبة . صارت الحركة حولي مرئية بشكل أقل وملموسة بشكل أكبر ، كما لو كان هناك كائنات زاحفة تشبه الدود ، تحتشد ، وبين الحين والآخر تحتك بي بجلودها الناعمة أو الشائكة .
ثم بدأت أُدرك وجود رائحة ، ربما تشبه رائحة البراز ، وربما الدم ، وربما القيء . بمعنى آخر رائحة عضوية ، رائحة موت عضوي ، وليست حياة عضوية . وكلما ازدادت حدة وعيي أكثر ، كلما شعرت بالخوف أكثر ، وبأنني لا أنتمي لهذا المكان وصارت هناك ضرورة لخروجي منه . لكن إلى أين سأذهب ؟
وفي نفس اللحظة التي كنت أسأل فيها نفسي هذا السؤال ، ظهر لي شيئاً جديداً من الظلمة التي فوق . لكنه لم يكن هذه المرة بارداً أو ميتاً أو مظلماً ، بل على العكس تماماً ، كان جميلاً جداً حتى أنني لو حاولت طوال حياتي أن أصفه لما استطعت لكنني سأحاول .
اللحن والبوابة
ظهر في الظلمة شيئاً ، يشع أثناء دورانه ببطء ، خيوطاً رفيعة من ضوء أبيض ولون ذهبي ، فبدأت الظلمة التي حولي تتبدد وتنقشع .
ثم سمعت صوتاً جديداً يصاحب الضوء ، صوتاً حياً ، يبدو كأجمل قطعة موسيقية من الممكن أن نسمعها على الإطلاق ، فصار يغلب صوت الدق الآلي الرتيب الذي كان يصاحبني لمدة .
أخذ الصوت يقترب أكثر وأكثر ، ويدور ويدور ويولد تلك الخيوط ذات الضوء الأبيض النقي ، التي كان يتخللها مقدار ضئيل من الذهب . وفي منتصف الضوء تماماً ، ظهر شيء آخر . ركزت بقوة محاولاً أن أكتشف ما هو . لقد كان فتحة ، بوابة . فلم أعد أنظر إلى الضوء الذي يدور ببطء ، بل أنظر من خلاله . بدأت بسرعة أتحرك إلى أعلى ، وفي لحظة عبرت الفتحة ووجدت نفسي في عالم جديد تماماً . أغرب وأجمل عالم رأيته على الإطلاق .
مُشرق ، نابض بالحياة ، مُبهج ، ساحر ... لا تكفيني الكلمات لوصفه . وشعرت كما لو كنت أُولد .. لا أُولد من جديد ، أو أُولد مرة أخرى ، بل فقط ... أولد .
كانت تحتي منطقة زراعية خضراء ، مزدهرة ، تشبه كوكب الأرض . لكنها لم تكن كذلك . شَعُرت تجاهها بما تَشعر به عندما يأخذك والدك مرة إلى مكان قضيت به بعض سنوات طفولتك المبكرة . أنت لا تعرف المكان ، أو على الأقل تعتقد أنك لا تعرفه . لكن عندما تنظر حولك ، يجذبك شيءٌ ما ، وتدرك أن جزءاً عميق وداخلي جداً منك يتذكر بالفعل هذا المكان ، وتبتهج لأنك رجعت إليه مرة أخرى .
كنت أطير مُحلقاً فوق الأشجار والحقول ، والجداول والشلالات . كان يوجد بشر هنا وهناك . وكان يوجد أطفال أيضاً ، يضحكون ويلعبون . كان البشر يغنون ويرقصون في دوائر . كانوا يرتدون ملابس بسيطة لكن جميلة ، وبدا لي أن ألوان تلك الملابس لها نفس الدفء الحي الذي للأشجار والورود المزهرة والمتفتحة في تلك المساحات الخضراء التي حولهم .
إنه عالم أحلام جميل ومذهل ، لكنه لم يكن حلماً . وعلى الرغم من أنني لم أكن أعرف أين كنت ، أو حتى ماذا كنت ، إلا أنني كنت متأكداً تماماً من شيء واحد فقط ، وهو أن هذا المكان الذي وَجَدت نفسي به فجأة كان حقيقياً تماماً . وحتى كلمة " حقيقي " للأسف لا تستطيع أن تعبر عما أحاول أن أصفه .
تخيل وكانك طفل ذهب لدخول السينما في أحد أيام الصيف . ربما كان الفيلم جيداً ، واستمتع بمشاهدته . لكن عندما ينتهي العرض ، ويخرج من المسرح ، ويرجع إلى الدفء العميق النابض بالحياة والسرور لشمس ما بعد الظهيرة ، يتساءل لماذا أهدر هذا اليوم الرائع ليجلس في مسرح مظلم ؟! ضاعف هذا الشعور أضعافاً ، فلن تقترب من الشعور الذي شعرت به حيث كنت .
لا أعرف بالتحديد كم من الوقت حلَّقت فيه فوق هذا المكان . فالوقت هناك يختلف عن الوقت الذي نعرفه على الأرض ويصعب جداً وصفه مثل أي شيء في هذا العالم ، لكني في مرحلةٍ ما ، أدركت أنني لم أكن وحدي أُحلق ، كان هناك أحد بجانبي . فتاة جميلة ذات عظمتي وجنتين مرتفعتين وعيون زرقاء عميقة . كانت ترتدي نفس نوع الملابس الشبيهة بالملابس الريفية التي يرتديها الناس في القرية التي تحتنا .
خصلات بنية ذهبية من شعرها تحيط بوجهها الجميل . كنا راكبين معاً على مُنقرش ومُزخرف ، مُفعم بالحيوية بألوانه الزاهية التي لا يمكن وصفها ، كأن هذا جناح فراشة . في الحقيقة ، كانت ملايين الفراشات تحيط بنا ، أفواج ضخمة منها ترفرف حولنا بأجنحتها ، تنزل إلى الخضرة ثم ترتفع مرة أخرى . لم تكن تظهر فراشة واحدة منفردة ، بل كلهم كانوا معاً ، كما لو كانوا سيل من الحياة والألوان ، يتحرك في الهواء . كنا نطير في شكل حلقات حول الورود المزهرة والبراعم التي كانت تتفتح عندما نطير بجانبها .
كان رداء الفتاة بسيطاً . ألوانه : أزرق فاتح ، وبرتقالي فاتح ، ألوان زاهية مُفعمة بالحيوية ، مثلها مثل كل شيء كان يحيط بنا . نَظَرَت إليَّ نظرة ، تستحق أن يحيا الإنسان ليراها . لم تكن نظرة رومانسية . ولم تكن نظرة صداقة بل كانت أسمى من أي نظرة لدينا هنا على الارض ، تجمع في داخلها كل أنواع الحب المختلفة ، لكنها في الوقت نفسه أكثر صدقاً ونقاءً منها جميعاً .
تَحدثت إليَّ ، وبدون استخدام أي كلمات ، عَبرَت رسالتها من خلالي كالريح ، وفهمت في الحال أنها حقيقية ، بنفس الطريقة التي كان بها العالم الذي حولي حقيقي وليس خيالياً .
الرسالة
كان للرسالة ثلاث أجزاء ، وإن كان لي أن أترجمها بلغتنا الأرضية ، سأقول انها كانت كالتالي :
" أنت محبوب ولك معزة إلى الأبد ."
" يجب ألا تخاف شيئاً . "
" لا يمكنك أن تُخطيء بشيء ."
غمرتني هذه الرسالة بشعور هائل بالراحة. كما لو كُنت قد فهمت قواعد لعبة كُنت ألعبها طوال حياتي دون فهمها تماماً .
ثم قالت : " سوف نُريك أموراً كثيرة هنا " . قالت هذا دون أن تستخدم فعلاً تلك الكلمات بل بنقل جوهرها ومعناها داخلي مباشرةً .
ثم قالت : " لكن في النهاية ، سوف تعود ."
وكان لدي سؤالاً واحداً بهذا الشأن . وهو : إلى أين سأعود ؟! ... فأنا لست إنسان عاطفي ساذج ، أنا أعرف كيف يبدو الموت ، أعرف كيف يكون هناك إنسان حي ، أتحدث وأمزح معه ، ثم يصير في لحظة كائن بلا حياة على طاولة العمليات بعد أن أُصارع لإبقاء أجهزة جسمه تعمل .أنا أعرف كيف تبدو المعاناة ، والحزن على وجوه الأحباء الذين فقدوا شخصاً لم يتخيلوا يوماً أنهم يفقدوه . كما أنني أعرف جيداً الفرق بين الحقيقة والخيال ، وأعرف أن ما أرويه لكم هو أكثر تجاربي واقعية .
في تلك الأثناء كُنت في مكان به سُحب كبيرة بيضاء ووردية ، تظهر بوضوح وسط السماء الزرقاء الداكنة التي تميل للسواد . فوق السحاب بمسافة لا يمكن قياسها ، كانت توجد أسراب من الأجرام السماوية الشفافة كيانات لامعة تُشكل أقواساً في كبد السماء ، تاركة خلفها خطوطاً طويلة شبيهة بالشفق القطبي الشمالي .
طيور ؟ ملائكة ؟ لم تخطر ببالي تلك الكلمات سوى وأنا أدون ذكرياتي . لكن ولا حتى هذه الكلمات تقدر أن تعبر بصدق عن هذه الكائنات ، التي كانت ببساطة تختلف تماماً عن أي شيء نعرفه على هذا الكوكب . كانوا أكثر علواً وسمواً .
صوت هائل مُدوي ، كأنشودة مجيدة تنزل من أعلى . وتساءلت إن كانت صادرة من تلك الكائنات المجنحة . وعندما أعدت التفكير في الأمر فيما بعد ، فهمت أن سعادة تلك الكائنات أثناء تحليقها ، كانت وراء هذا الصوت . كان الصوت مجسماً ، ويكاد يكون مادياً ، مثل المطر الذي تستطيع أن تشعر به على بشرتك دون أن يبللها .
لم تكن الرؤية والسمع شيئين منفصلين في هذا المكان . كنت أستطيع أن أسمع جمال الأجسام الفضية لتلك الكائنات المتلألئة ، كما أستطيع أن أرى صوت ما ينشدون ، كأنك عندما تنظر أو تسمع أي شيء في هذا العالم ، تصبح جزء منه بطريقة ما . فأنت لا تنظر " إلى " الأشياء في هذا العالم ، لأن كلمة " إلى" في ذاتها تحمل معنى الإنفصال ، وهو أمر غير موجود هناك ، كل شيء هناك مُتميز ، لكن في الوقت نفسه كان جزءاً من شيء آخر ، مثل التصميمات الأنيقة المتداخلة لسجادة فارسية ... أو لجناح فراشة .
الله ، الخالق ، " OM "
هبت ريح دافئة ، مثل التي تهب في أفضل أيام الصيف ، فتحركت أوراق الأشجار ثم انسابت كمياه سماوية ، نسيم إلهي . لقد غيَّرت الريح كل شيء ، ونقلت العالم حولي إلى سلم موسيقى أعلى ، أو إلى تردد أعلى .
مع أنني كنت لا أملك إلا إمكانيات لغوية ضئيلة ، على الأقل بمقياسنا الأرضي ، إلا أنني بدأت بلا كلام أسأل هذه الريح أو هذا الكيان الإلهي الذي كنت أشعر أنه يحركها :
- أين هذا المكان ؟
- من أنا ؟
- لماذا أنا هنا ؟
في كل مرة كُنت أطرح أحد تلك الأسئلة ، كانت تأتي الإجابة في الحال في تدفق قوي من النور والألوان والمحبة والجمال ، يجتاز من خلالي كموجة عارمة . والمهم في ذلك التدفق ، أنه لم يكن يغمر أسئلتي فيسكتها ، بل كان يُجيب عليها ، لكن بطريقة تفوق اللغة . كانت الأفكار تدخلني بشكل مباشر . لكنها لم تكن أفكار كالتي نعرفها على الأرض . لم تكن غامضة ، أو مجازية ، أو مجردة . بل كانت أفكار حكيمة ومباشرة . وأثناء استقبالي لها كنت أستطيع فهم معانيها في الحال وبلا جهد ، بينما كانت ستتطلب مني سنوات كثيرة على الأرض لأفهمها .
تابعت تحركي للأمام فوجدت نفسي أدخل في فجوة هائلة ، مُظلمة جداً ، لكن في الوقت نفسه مريحة تماماً . بقدر ما كان سوادها حالك ، بقدر ما كانت أيضاً ممتلئة بضوء وكأنه يأتي من جُرم سماوي مُشع . جُرم حي ويكاد يكون مُجسم ، كما كانت أناشيد الكائنات الملائكية .
كان موقفي ، لغرابته ، مشابه للجنين في رحم أمه . فالجنين يطوف في الرحم مع رفيقته الصامتة المشيمة ، التي تغذيه ، وتعتبر الوسيط بينه وبين ذلك الكيان غير المرئي الذي يحيط به أي الأم . في هذه الحالة ، كان الله هو " الأم " ، الخالق ، مصدر صناعة الكون وكل ما به . كان قريباً جداً وكأنه لا توجد أي مسافة بين الله وبيني . لكن في الوقت نفسه ، كنت أشعر بالإتساع اللانهائي للخالق ، ورأيت كم أنا صغير جداً بالمقارنة به . سوف استخدم بين الحين والآخر تعبير " OM " للإشارة إلى الله لأنني استخدمت هذا الاسم في كتاباتي بعد الغيبوبة . كان " OM " هو الصوت الذي أتذكر أنني سمعته مصاحباً لذلك الإله المحب بلا حدود ، كلي العلم ، وكلي القدرة ، الذي لا تستطيع الكلمات أن تصفه .
ثم أدركت أن الجرم السماوي كان هو رفيقي في هذا الاتساع الكبير الذي بيني وبين " OM " . وبطريقةٍ ما وجدت هذا الجرم وكأنه " المترجم " والوسيط بيني وبين هذا الوجود المحيط بي .
كان الأمر كما لو كنت قد وُلدت في عالم أكبر ، من رحم كوني عملاق ، والجرم السماوي ( الذي ظل بطريقةٍ ما مرتبطاً بالفتاة التي على جناح الفراشة ) كان يرشدني خلال هذه العملية .
فيما بعد ، عندما رجعت هنا إلى العالم ، وجدت مقطع من كلمات الشاعر المسيحي " هنري فوجهان" بالقرن السابع عشر تقترب من وصف هذا المكان الفسيح ، الأسود الحالك الذي هو مكان الإله نفسه ، فيقول :
" يقول البعض ، توجد في الله ظلمة عميقة لكن متألقة..." كان هذا هو الحال بالضبط ، ظلمة حالكة ممتلئة بالنور في الوقت نفسه .
استمرت الأسئلة والأجوبة . مع أنها لم تكن بلغتنا التي نعرفها ، كان صوت هذا الكيان دافئاً وشخصياً . كان يفهم البشر ، ويمتلك الصفات التي نمتلكها ، ولكن بمقدار أعظم وغير محدود . كان يعرفني بعمق ويفيض بصفات كنت أربطها طوال حياتي بالكائنان البشرية فقط مثل الدفء، التعاطف ، الشفقة ... وحتى السخرية والفكاهة .
في بيت أبي منازل كثيرة
من خلال الجرم السماوي ، أخبرني " OM " أنه لا يوجد كون واحد بل العديد منهم لكن الحب يوجد في مركزهم جميعاً . الشر موجود في كل الأكوان الأخرى أيضاً ، لكن بكميات ضئيلة للغاية . كان الشر ضرورياً لأنه بدونه يكون من المستحيل أن تكون هناك إرادة حرة ، وبدون الإرادة الحرة لا يكون هناك نمو إلى الأمام ، ولا فرصة لنا لنصير كما يتوق الله أن نكون . وبرغم بشاعة وقوة الشر في بعض الأحيان في عالم كعالمنا ، إلا أن الصورة العامة تؤكد أن الحب سائد بشكل طاغي ، وسوف ينتصر في النهاية .
رأيت أنه توجد حياة في كل مكان من الأكوان التي لا تحصى ، بما في ذلك من يفوق ذكائهم ذكاء البشر . كما رأيت أن هناك عدد لا نهائي من العوالم العليا ، لكن الطريقة الوحيدة لمعرفة تلك العوالم هي دخولها واكتشافها بشكل مباشر . لا يمكن معرفتها ، أو فهمها من مكان أدنى . في تلك العوالم العليا ، يوجد السبب والنتيجة ، لكن بمفاهيم تختلف عن مفاهيمنا الأرضية . مفاهيم الزمن والمساحة التي نتحرك على أساسها في هذا العالم الأرضي ، تتشابك وتتداخل مع تلك العوالم العليا ، بتعبيرٍ آخر ، تلك العوالم ليست منفصلة تماماً عنا ، لأن كل العوالم هي جزء من الحقيقة الإلهية المحيطة بالكل .
بين المركز ومنظور دودة الأرض
جذبني شيئاً . ليس كأن شخص يمسك بذراعي ، بل شيئاً أكثر لُطفاً ، وأقل مادية . كان الأمر يشبه انغماس الشمس خلف سحابة فتشعر بتغير فوري في مزاجك كرد فعل لذلك .
كنت أتراجع ، مبتعداً عن المركز . وكانت ظلمته الداكنة المضيئة تتضاءل بينما تظهر المزارع الخضراء التي للبوابة بكل جمالها . وعندما نظرت إلى أسفل ، رأيت الفلاحين مرة أخرى ، الجداول المتلألئة والشلالات ، وكذلك الكائنات الملائكية التي تتحرك في مسارات بالأعلى .
كانت رفيقتي موجودة أيضاً . بالطبع كانت موجودة طوال الوقت ، خلال رحلتي إلى داخل المركز ، على هيئة كرة النور التي تشبه الجرم السماوي . لكنها الآن ، عادت مرة أخرى ، إلى الشكل البشري . مرتدية نفس الرداء الجميل ، وجعلتني رؤيتها مرة أخرى أشعر كطفل تائه في مدينة كبيرة وغريبة عنه وقد رأى فجأة وجهاً مألوفاً . لقد كانت عطية هائلة !.
تذكرت الآن تلك الرسالة التي وصلتني بلا كلمات عند مدخل الظلمة إلى المركز " سوف نجعلك ترى أموراً كثيرة ، لكنك ستعود ." والآن فقط أدرك المقصود بالعودة " .
كان المقصود العودة إلى العالم الذي أطلقت عليه " منظور دودة الأرض " حيث بدأت هذه الرحلة الطويلة . لكن المكان كان مختلفاً هذه المرة . فالنزول إلى الظلمة مع علمي بما الكامل بما يقع فوقها ، جعلني لا أشعر بالخوف الذي شعرت به عندما كنت هناك للمرة الأولى . وبينما يخفت صوت الموسيقى الرائعة للبوابة عاد الدق النابض لهذا العالم السفلي ، لكنني سمعت ورأيت تلك الأشياء كما يرى إنسان راشد مكان شعر بالخوف منه في وقتٍ ما لكنه لم يعد خائفاً منه . الظلمة ، الوجوه التي تظهر وتختفي ، الجذور الشبيهة بالشرايين النازلة من أعلى ، لم تعد تخيفني الآن ، لأنني فهمت - بالطريقة التي بلا كلمات والتي فهمت بها كل شيء - أنني لست من هذا المكان ، لكنني أزوره فقط .
لكن لماذا أزوره مرة أخرى ؟
جاءتني الإجابة في نفس اللحظة - بالطريقة غير الكلامية التي تصلني بها الإجابات في العالم المضيء بالأعلى - هذه المغامرة كلها ، كانت جولة ، نظرة عامة على الجانب الروحي غير المرئي للوجود . ومثل كل الجولات الجيدة ، شملت كل المناطق والمستويات .
كانت طبيعة الوقت في تلك العوالم تفوق ما أعرفه على الأرض . تأمل كيف يكون الوقت في الأحلام . في الحلم كلمة " قبل " و " بعد " تحمل دلالات مُخادعة . فمن الممكن أن تكون في جزء من الحلم وتعرف ما سيحدث ، حتى لو لم يأتي بعد . كان " وقتي " هناك في تلك العوالم مشابهاً لذلك .
كم من الوقت أمضيت هناك ؟ مرة أخرى لا أعرف بالتحديد ، ولا توجد طريقة لقياسه ، لكن ما أعرفه هو أن بعد عودتي إلى العالم السفلي ، تطلب الأمر وقتاً طويلاً لكي أُدرك أنني أستطيع أن أتحكم إلى حدٍ ما في حركتي ، وأنني لم أعد محاصراً في هذا العالم السفلي وأنني بجهد منضبط ، أستطيع أن أرتفع مرة أخرى إلى السهول العَلويَّة . وفي لحظة معينة في الأعماق المظلمة ، وجدت نفسي أتمنى عودة اللحن المغزلي . وبعد مجهود كبير لأتذكر اللحن ، استدعى وعيي الموسيقى الرائعة ، وكرة الضوء المغزلية التي تصدر منها الموسيقى . فانطلقت بسرعة ، مرة أخرى ، عبر الوحل الهلامي ، وبدأت أرتفع .
لقد اكتشفت ببطء أنه في العوالم التي بالأعلى ، معرفة الشيء والتفيكر به هو كل ما تحتاجه لتتحرك تجاهه . فتفكيري في النغم المغزلي كان سبباً في ظهوره ، واشتياقي إلى العوالم العَلويَّة كان يأخذني إلى هناك . وكلما زاد تآلفي مع العالم العلوي ، كلما كان أسهل بالنسبة لي أن أرجع إليه . وخلال المدة التي أمضيتها خارج جسدي ، كانت رحلتي بين عالم " منظور دودة الأرض " المظلم الموحل ، وبين الخضار المضيء للبوابة ، وداخل المركز الأسود ذو الظلمة المقدسة مرات عديدة . لا أستطيع أن أحدد كم مرة دخلت كل منهم ، لكن كل مرة كنت أصل فيها للمركز ، كنت أدخل إلى مكان أعمق مما قبل ، وكنت أتعلم أكثر ، بنفس الطريقة غير الكلامية التي يتم بها التواصل في هذه العوالم التي تعلو عالمنا هذا .
لا يعني ذلك أنني رأيت كل تلك الأكوان العلوية ، ولكن في الحقيقة كان أهم ما تعلمته في المركز في كل مرة كنت أرجع فيها إليه ، هو استحالة أن أفهم كل ما كان موجوداً ، سواء المادي المرئي منه أو بالأحرى الروحي غير المرئي منه ، لهذا العدد الذي لا يحصى من الأكوان الأخرى التي توجد أو وُجِدَت على الإطلاق .
لكن لم يكن كل هذا يشغلني ، كل ما كان يشغلني فعلاً ، ما تلقيته في البداية من رفيقتي الجميلة على جناح الفراشة عند دخولي الأول إلى البوابة .
- أنت محبوب ومعتز بك كثيراً إلى الأبد
- يجب ألا تخاف شيئاً
- لا يمكنك أن تخطئ بشيء
وإن كان عليَّ أن أختصر هذه الرسالة في جملة واحدة ، ستكون كما يلي " أنت محبوب " . وإن كان عليَّ أن أختصرها أكثر ، إلى كلمة واحدة ، ستكون حتماً " المحبة " .
العديد من أولئك الذين مروا بنفس التجربة التي مررت بها . عندما رجعوا إلى هذه الأرض ، لم يجدوا أمامهم سوى الكلمات فقط ، ليعبروا بها عما اختبروه وما رأوه من أمور تعجز الكلمات عن التعبير عنها . كما لو كنت تحاول كتابة قصة بنصف الحروف الأبجدية .
العائق الأولي الذي يتوجب على معظم مختبري الموت أن يجتازوه ، ليس هو كيفية التاقلم ثانية مع قيود العالم الأرضي - مع أن ذلك بالتاكيد يشكل تحدي كبير - بل هو كيفية التعبير عن المعنى الحقيقي للمحبة الذي اختبروه هناك .
فالعلم الذي كرست له معظم حياتي ، لا يتعارض مع ما تعلمته هناك بالأعلى . بينما يعتقد العلميون أنه يتعارض ، لأنهم محصورون في النظرة المادية للعالم ، فيروا أن العلم والروحانية لا يجتمعان معاً . هم مخطئون . ونشرهم لهذه الأفكار الخطيرة على مستوى العالم هو سبب كتابتي لهذا الكتاب ، لذا يعجزون عن فهم كل الألغاز المرتبطة بقصتي ، كيف أصبت بالمرض ، أو كيف تمكنت أن أكون واعياً في عالم آخر أثناء غيبوبتي ، وكيف بطريقةٍ ما استعدت صحتي تماماً ، فهي امور ثانوية في نظرهم .
نوع خاص من اختبارات الموت
عندما كنت في البداية داخل عالم منظور دودة الأرض ، لم يكن لي وعي هناك . فأنا لم أكن أعرف من أو ماذا أكون ، أو إن كنت كائن فعلاً . لقد كنت ببساطة ... موجوداً ، لكنني الآن أعرف الحقيقة . الآن أدرك أنني كنت لدى الإله ولا يوجد شيء على الإطلاق يستطيع أن يسلبني ذلك أبداً . والإعتقاد الخاطيء بأننا نستطيع بطريقةٍ ما أن ننفصل عن الله هو أساس كل أشكال القلق في الكون ، وعلاج ذلك - الذي تلقيته جزئياً داخل البوابة وبالكامل داخل المركز - هو الثقة بأنه لا يوجد على الإطلاق ما يستطيع أن يفصلنا عن الله . هذه المعرفة ، نزعت مني الخوف من عالم منظور دودة الأرض ، وسمحت لي أن أراه على حقيقته كجزء غير سار من الكون ، لكن لا شك أنه ضروري .
ذكر العديد ممن اختبروا تجربة الموت أنهم مروا باستعراض لحياتهم الماضية ، رأوا فيها تعاملاتهم مع الآخرين كما رأوا الأعمال الجيدة والسيئة التي قاموا بها خلال حياتهم .
لم أختبر أياً من هذه الأمور ، لقد كنت متجرداً تماماً من هويتي الجسدية طوال الوقت ، ولذلك لم أختبر أياً من الأحداث التقليدية الخاصة باختبار الموت التي تعتمد على معرفتي لهويتي الأرضية ، فكيف استطعت أن أتعلم كل هذه الأمور الجميلة المعقدة ؟! كيف استطعت أن أرى الفتاة التي بجانبي ؟ والأشجار المزهرة والشلالات والفلاحين . ومع ذلك لا أعرف أن " إبين ألسكندر " هو من يختبر كل تلك الأمور ؟ كيف أستطيع أن أفهم كل ما فهمته ، ومع ذلك لا أدرك أنني كنت على الأرض طبيباً ، زوجاً ، وأباً ؟! كنت أرى الأشجار والأنهار والسحب عندما دخلت إلى البوابة بذهول ، رغم أني رأيت ذلك كثيراً على أرضنا كطفل نشأ في وينستون-سليم ، بشمال كارولينا ؟
وأفضل محاولة لي لإجابة هذا السؤال هي أن أقترح أنني كنت في موقف مشابه لإنسان أصيب بفقدان ذاكرة جزئي لكن مفيد . حتى ولو لدة قصيرة .
كيف أكون قد استفدت من عدم تذكري لهويتي الأرضية ؟ لقد سمح لي ذلك بأن أتعمق في العوالم التي تفوق عالمنا دون أن أنشغل بما تركته خلفي . فخلال الوقت الذي أمضيته في تلك العوالم ، كنت روحاً ليس لديه ما يخسره . لا أماكن لأفتقدها ، ولا أشخاص لأحزن على تركهم . لقد جئت من الفراغ وليس لي ماضي ، ولذلك قبلت بالكامل الظروف التي مررت بها برباطة جأش ، حتى الظلمة الأوليَّة في عالم منظور دودة الأرض .
ولأنني نسيت تماماً هويتي الأرضية ، تواصلت بالكامل مع الكيان الكوني الحقيقي الذي هو أنا ( وهذه حقيقتنا جميعاً) .
كانت تجربتي تشبه الحلم في بعض الجوانب حيث تستطيع أن تتذكر بعض الأمور عن نفسك بينما تنسى تماماً أموراً أخرى . لكنني أظل أؤكد أن البوابة والمركز لا يمتا للحلم بصلة بل يفوقا الواقع - وأبعد ما يكونا عن الخيال . إن قلت أن ذاكرتي نُزعت مني ، سيجعل ذلك الأمر يبدو وكأن غياب ذكرياتي الأرضية هناك كان مُتعمداً بطريقةٍ ما . وبالفعل أشك أنه كان كذلك . وربما لا أُبالغ ، عندما أقول أنه سُمح لي أن أموت بعد نضال أصعب ، وأسافر لأماكن أعمق ، خلاف كل مختبري الموت قبلي .
وبقدر ما يبدو في ذلك من تعالي ، إلا نواياي ليست كذلك . لقد ساعدتني الكتابات الكثيرة الموجودة عن اختبار الموت على فهم رحلتي الخاصة خلال الغيبوبة . لا يمكنني أن أدعي أنني أعرف ما مررت به في هذه التجربة ، لكنني أعرف ( بعدها بثلاث سنوات) ، من قراءتي لما كُتب عن تجارب موت أخرى ، أن الدخول إلى العوالم الأعلى هو عملية تدريجية تتطلب أن يتحرر الإنسان مما يربطه بالمستوى الأدنى .
ولم يمثل ذلك مشكلة بالنسبة لي ، لأنني خلال تجربتي لم يكن لي أي ذكريات أرضية على الإطلاق ، والألم والحزن الوحيد الذي شعرت به كان عندما رجعت إلى الأرض حيث بدأت .
أقرأ أيضاً الجزء الرابع رحلة العودة
0 تعليقات