Ad Code

« أيوب الجديد » سيرة القديس الأنبا يسطس تلميذ الأنبا صموئيل المعترف

كاتب سيرته الأنبا هرياقوس أسقف مدينة البهنسا
ولد القديس يسطس في مدينة أنطاكية ، وكان له أخت عذراء تُسمى مدرونة ، وكانا أولاد قوم محبين لله كريمين في جنسهما وتنيح أبواهما وتركاهما أيتاماً ، وعلى الرغم من كثرة غناهما لم تخطر محبة العالم على قلبهم ، فعندما كان القديس يسطس أبن عشرين سنة أشتاق إلى حياة الرهبنة ، ولما علمت أخته مدرونة بما عزم عليه أصّرت على المضي معه ، فحلقت شعر رأسها وتزّيت بزي الرجال وتهيأت للسفر معه ثم خرجا من قصرهما ليلاً ولم يأخذا معهما شيئاً البتة من مال ، وصليا صلاة قلبية حارة ، ثم تركا باب القصر مفتوحاً ومضيا ، مكث القديسان يسطس وأخته مدرونة يومين سائرين على الأقدام ، فتعبا لأنهما لم يكونا معتادين على هذا المشي .
وفي الطريق وجدا شيخاً راعي غنم إسمه سيرا فأخذهما إلى كوخه الصغير ليستريحا من عناء السفر ، وأعلمه القديس يسطس أنهما ذاهبين إلى الإسكندرية وطلبا منه أن يرشدهما للطريق فأرسل معهما راعي صغير ليدلهم على الطريق وسار معهما حتى وصلا إلى شاطئ البحر ، وكانت في البحر سفينتان سائرتين في إتجاه واحد فلما نظرهما الركاب وكانوا قوماً من البربر ظنوا أنهما تاجران يسبوهما ويأخذون ما معهما ، ولما فتشوهما ولم يجدوا شيئاً معهما ، سبوهما ليبيعوهما كعبيد في مصر ، ثم أقترعوا على الأخوين ، وأخذت كل سفينة واحداً منهما ، وهكذا أفترق الأخوان عن بعضهما البعض وكان الوداع حاراً مليئاً بمشاعر الحب ولكنهما أيضاً كانا يشددان ويشجعان بعضهما على أحتمال الشدائد من أجل الرب يسوع المسيح .
بيعه كعبد لأرخن مصري

وبعد أن مكثوا ستة وعشرين يوماً في البحر وصلوا إلى جزيرة  وباعوا فيها الشاب يسطس كعبد لأرخن من أكابر مريوط أسمه أرشيلدس وكان هذا الأرخن معتاداً على الذهاب إلى شيوخ شيهيت ليتبارك منهم ، وقد مكث القديس يسطس خمس سنوات يخدم في بيت سيده وكان محبوباً من الجميع .
كان لأرشيلدس أبنة متزوجة ، وكان القديس يسطس يتولى تربية طفلها الصغير ، وذات يوم بينما كان حاملاً الطفل سقط منه على حجر فسال دمه ، فخاف القديس وترك الطفل وهرب ظناً منه أن الطفل قد مات ، ولما رأى الناس أنه هرب سرقوا الطوق الذهبي من الطفل وحملوه وجاءوا به إلى بيت أبيه ، وعندها بحث العبيد عن القديس يسطس ولما وجدوه ضربوه ضرباً مؤلماً وجروه على الأرض فكانت الحجارة والصخور تمزق جسده الرقيق وكان يرفع قلبه بالصلاة قائلاً :" لتكن أرادتك يا رب ودّبر حياتي حسب مشيئتك الصالحة فإن لك الحمد على الدوام " . ولما وصلوا إلى منزل سيده والد الطفل أمر بضربه ضرباً مؤلماً حتى قارب الموت ، ولكن زوجته المحبة لله أنقذته من يديه وقد ظل سبعة أيام وهو مثل الميت من عقوبة سيده .
زحف القديس يسطس قليلاً قليلاً حتى خرج من باب القصر وتحامل على نفسه وسار في الطريق حتى وجد حظيرة خراف فأستراح بجوارها وعندما جاء الراعي ووجده راقداً وكانت القروح تملأ جسده أشفق عليه وكان ينظف جراحاته وأما القديس يسطس فكان يخاطب نفسه قائلاً 《أذكر أيها الجسد أنك أقمت زماناً تتمتع بأفخر المأكولات وكنت راكباً على أكتاف العبيد والجواري والخيل المختارة ، والآن تنال العقاب لكبريائك وجهلك ؛ أذكر أيها الجسد أنك أقمت زماناً تتعطر بالروائح الزكية فالواجب عليك أن تقبل رائحة القروح النتنة لأنك مستحقها ؛ أذكر أيها الجسد أنك كنت متكئاً على الأسرة العالية ولا بد أن تتدحرج إلى القبر ؛ أيها الجسد أحتمل التعب والعذاب ، وضع في قلبك أنك من اليوم في القبر ؛ أيها الجسد الأفضل لك أن تضعف من الجوع والعطش من أن تضعف من عطش النار التي لا تطفئ ؛ أذكري يا نفسي أنك غريبة ولم تصلي بعد إلى الطريق المؤدي للملك ، وإن كان لبس الأسمال البالية يحزنك فإن فضيحة العري الذي هناك أعظم بكثير مما هي هنا 》 .
وكان الراعي يسترق السمع لهذه الكلمات متعجباً منها .
وبعد أربعين يوماً تقوى جسده قليلاً وألتأمت جراحاته وقام ليتمشى حول حظيرة الراعي ، فوجد كوخاً صغيراً فطلب من الراعي أن يسكن فيه وكان يصلي لله قائلاً : 《أشكرك يا ربي يسوع المسيح لأنك جعلتني مستحقاً لهذه المسكنة فأنك أخترت مساكين العالم ليكونوا لك رسلاً وقلت ما أعسر دخول غني لملكوت السموات ، فالمسكين الفقير لعازر تنيح في حضن ابراهيم والغني تعذب في الجحيم ، ويوحنا المعمدان على الرغم من عظم كرامته وأنتسابه للسيد المسيح لم يتزّين بل كان لباسه من وبر الأبل ومنطقة من جلد على حقويه 》 .
ولقد ظل القديس يسطس على هذه الحالة سبعة شهور . ثم مرض الأرخن أرشليدس فمضى إلى جبل شيهيت ليتبارك من الشيوخ القديسين ويشفى بصلواتهم ، وهناك تقابل مع الأنبا صموئيل وطلب منه أن يصلي من أجله لكي يشفيه الرب ، فقال له الأنبا صموئيل : قم اذهب بيتك بسلام وأنت تستريح قبل أن تصل بيتك .
فقال له الأرخن : لعلي أموت في الطريق ، فإن كان الأمر كذلك فخير لي أن أتنيح في هذا الجبل المقدس .
فلما رأى الأنبا صموئيل حزن الأرخن قال له : لا تخف فإنك لن تموت في هذه السنة قم أذهب إلى مدينتك فستجد في الطريق رجلاً حامل جرة ماء أشرب منها وأنت تُشفى من مرضك بصلاته ؛ فلما سمع الأرخن هذا قام مسرعاً وركب دابته وسار متوجعاً من شدة الآم المرض فلما أصبح بالقرب من مدينته رأه القديس يسطس فأسرع وملأ الجرة ليسقيه هو ومن معه كحسب عادته مع كل المسافرين ؛ وعندما أقترب منهم فوجئ أنه أمام سيده أرشليدس فخاف وطأطأ رأسه إلى أسفل وصلى طالباً معونة الله وقدم له جرة الماء ليشرب ولم يعرفه أرشليدس ولا عبيده ، ثم مضى أرشليدس في طريقه ، وبعد قليل أحس بالشفاء وتذكر كلمات القديس الأنبا صموئيل وبحث عن القديس الذي لا يعرف أسمه الذي أعطاه ليشرب وإذ لم يجده ترك له ذهباً في كوخه ومضى .
وعندما عاد القديس يسطس لكوخه وجد الذهب ففكر في نفسه قائلاً : لعل الأرخن ترك هذا الذهب ليجربني وربما يعود فيرسل عبيده فيقتادوني إليه مرة أخرى وأُصبح في نياح جسدي وأُحرم من نياح الملكوت ؛ وللوقت ودع الراعي شاكراً إياه على كل ما صنع معه من الخير وبكى الراعي متألماً لفراقه وقال له : إنك يا ولدي من حين جئت إليَّ بارك الرب في بيتي وأولادي وأنني مستعد أن أخسر كل شئ لكي لا تتركني وعرض عليه الراعي أن يزوجه بإمرأة ويعطيه نصيباً في ماله كأحد أولاده ، ولكنه رفض وودع الراعي ومضى .
مكث القديس يسطس خمسة أيام سائراً حتى وجد قرية صغيرة فنزل فيها عند طبيب أسمه "قلته" وأقام عنده خمس سنوات يطيعه مثل العبد وكان يخدم المرضى والفقراء والغرباء حتى أنه كان يقطع الحطب ويبيعه وينفق ثمنه على المساكين ، وكان بفرح ينظف جراحات المرضى ولم يخالف الطبيب في شئ ، وبعد خمس سنوات مرضت زوجة أرشليدس وفشل الأطباء في علاجها ، وتذكر أرشليدس القديس الذي شرب ماء من جرته فشُفي ، فطلب من عبيده أن يذهبوا إليه وكتب له رسالة متوسلاً إليه أن يحضر إليهم ليتباركوا منه وليشفي زوجته ، ولما وصل العبيد الكوخ الذي كان يسكن فيه القديس يسطس ولم يجدوه سألوا الراعي عنه وأخبروه بشفاء سيدهم من مرضه عندما شرب من جرة الماء وعرفوه بمرض زوجة سيدهم ، ولكن الراعي لم يكن يعرف إلى أين مضى القديس وعرفهم أن أسمه يسطس ، فرجع العبيد وأخبروا سيدهم بما حدث .
أشار بعض أصدقاء أرشليدس بأستدعاء قلته الطبيب ليعالج زوجته ، ومضى عبيد أرشليدس ليحضروه ، وفي طريقهم تقابلوا مع القديس يسطس وهو يحمل الحطب كعادته ليبيعه وينفق ثمنه على الفقراء والمرضى ، فسألوه عن قلته الطبيب وعرف القديس أنهم عبيد أرشليدس فأوصلهم إلى قلته الذي أكرم ضيافتهم ،وكان القديس يسطس يخفي نفسه عنهم لئلا يعرفوه ، فلما أرادوا العودة إلى سيدهم ، وكان الرب قد أخبر قلته الطبيب أن شفاء الزوجة يتم على يدي القديس يسطس ، دعا قلته القديس يسطس وقال له : يا ولدي قم أذهب مع عبيد هذا السيد لتعالج زوجته ؛ فأجابه القديس قائلاً : يا سيدي كيف أعالج المرضى وأنا لست طبيباً ؟ وكيف أشفي أخرين ولم أستطع أن أشفي ذاتي ؟ وإذ كان الطبيب قلته يضغط على القديس ليمضي مع العبيد حاول أن يهرب سراً فأمسكوا به ووضعوه على دابة ومضوا به إلى سيدهم.
رأى أرشليدس القديس فعرفه أنه هو ذلك الإنسان الذي شرب من جرته وشُفي ، وقد صلى القديس لزوجته فشفاها الرب بصلواته ، ثم مضت أبنة أرشليدس وقالت لأبيها : يا أبي هل عرفت هذا الإنسان وما أسمه إنه يسطس عبدك الذي أشتريته ، وقد عرفته من آثار الجراحات في جسده وأنفه عندما أمر زوجي فجره العبيد على الأرض وقد سمعته يصلي ويذكر الآلام التي حدثت له ؛ أما الأرخن أرشليدس فإستدعى القديس إليه وقال له : أرجوك أن تصنع محبة وتخبرني بسيرتك من أجل الرب يسوع المسيح لا تكتم عني أمرك ، وأتعهد أن أنفذ كل ما تطلبه مني .
فبدأ القديس يبكي قائلاً : أنا عبدك العاصي الذي هرب من بيتك وهوذا أنا أمامك لتعاقبني على الخطية التي صنعتها ؛ ففرح أرشليدس عندما سمع هذا الكلام وأمر عبيده أن ينزعوا عنه الخرق البالية التي يلبسها ويلبسوه حلة جديدة وأمر أيضاً أن يكون وكيلاً على كل ما في بيته ولكن القديس رفض قائلاً : إن وجدت نعمة في أعينكم لا تغصبوني على أن أخلع ثيابي ، وتذكر يا سيدي وعدك بأن تنفذ ما أطلبه منك ، إني أرجو أن ترسلني لأتبارك من شيوخ شيهيت القديسين.
ولكن زوجة أرشليدس منعته قائلة : لن أتركك تذهب من عندي ، وأعاقته ستة أشهر عن الذهاب إلى شيهيت.
فمرضت زوجة أرشليدس ثانيةً وطلبت من القديس أن يشفيها فقال لها : لن تبرئي من مرضك ما لم أذهب إلى شيهيت . وأستجاب أرشليدس لطلبه وأرسله إلى شيهيت مع عبيده ومعه رسالة إلى الشيوخ هناك يقول فيها :" أنا الحقير أرشليدس أكتب إلى آبائي الأطهار ، هوذا قد أرسلت لكم هذا الإنسان الذي أبتعته كعبد فوجدته مثل طبيب يشفي أسقامي ، والآن يا آبائي الأطهار لا أستطيع كتابة فضائله لأنه يهرب من مجد العالم الباطل ، وقد أرسلته لكم كأرادته في أن يصير راهباً ، كونوا معافين بالرب يا آبائي القديسين " .

تلمذته للقديس الأنبا صموئيل المعترف .
عندما أقترب العبيد من جبل شيهيت أختفى القديس يسطس عنهم ، وأرشده ملاك الرب إلى قلاية الأنبا صموئيل وكان ملاك الرب قد أعلم الأنبا صموئيل بكل ما كان من أمره ، فتقابل القديسان وجلسا معاً يصليان ويتحدثان بعظائم الله ، وقال له القديس يسطس : أنا عبد عاصي فأقبلني وأصنع رحمة مع ضعفي .
وبينما هما يتكلمان وصل العبيد وأعطوا الرسالة لشيوخ شيهيت فلما قرأوها بحثوا عن القديس فوجدوه في مغارة الأنبا صموئيل فأعلموه برسالة الأرخن أرشليدس فأعطاه قلاية يسكن فيها وصار القديس يسطس تلميذاً له من ذلك اليوم ، وكان مملوءاً نعمة وفضيلة ، وبعد ستة شهور ألبسوه الأسكيم المقدس وصار راهباً فزاد من نسكه وكان يجهد نفسه في عبادات كثيرة .
كشف سيرته وأصالة نسبه .
مرض أسقف المدينة التي نشأ فيها القديس يسطس فمضوا به إلى شيهيت ليتبارك من القديسين ويشفي بصلواتهم ، على أن المرض أشتد عليه وأقترب من الموت ، فأرسل الشيوخ إلى الأخوة ليأتوا ويتباركوا من من الأسقف قبل نياحته ، ولكن القديس يسطس تخلف عن الحضور معهم لأنه خاف أن تُكتشف حقيقته ويُعرف شرف عائلته ، ولما رأى الأنبا صموئيل أولاده الرهبان يتباركون من الأسقف وليس بينهم ولده يسطس أرسل إليه أحد الرهبان ؛ وفكر القديس يسطس  في نفسه قائلاً : أن لم أسمع كلام أبي صرت مخالفاً لوصيته ، ولكن لتكن إرادة الله ، فقام ومضى إلى الأسقف ، وكان الرهبان مجتمعين حوله فأقترب القديس يسطس منه ورأسه مغطىّ ووجهه إلى الأرض ، وصنع مطانية لأسقف قائلاً : أذكرني يا أبي وبارك على ضعفي ؛ فباركه الأسقف وقبّل القديس يسطس يده ، وللوقت جلس الأسقف وأمسك بيد القديس وقد شُفي من كل أمراضه وقال : لقد قبلت أتعاباً كثيرة يا ولدي لأتمكن من أن أنظر هذه اليد ، مبارك أنت يا من حسبوه عبداً وهو سيد .
ثم خاطب الرهبان قائلاً : إن الأخ يسطس من جنس الملوك ، وكان لوالديه كرامة عظيمة في أنطاكية ، وهذا هو اليوم الثالث منذ ثقل علي المرض وقد قيل لي إن لم يضع القديس يسطس يده عليك لا تُشفى ، كما أُخبرت أيضاً أن القديس يسطس سيأتي إلي ، فلما أقترب مني رأيته وملاك يمشي معه ، وأشار الملاك إليَّ قائلاً يا أسقف هوذا يسطس قد جاء إليك وستنال الشفاء على يديه .
وقف القديس يسطس يسمع هذه الكلمات باكياً لأنه لم يشته شيئاً من هذا المجد الباطل ، ولكن هكذا دبر الله محب البشر أن تُكتشف سيرة هذا القديس ، وعاد الأسقف إلى بلده وأخذ ينشر سيرة القديس يسطس بين أهل أنطاكية .
حدث ذات يوم أن هاجمت جماعة من البربر المجتازين قلاية الأنبا صموئيل وتلميذه يسطس وأمسكوا بهما وضربوهما بالسياط ثم ربطوهما في أذناب الخيل ، وكانوا يضربونهما على وجهيهما ليخبروهما عن مكان أموال الدير ، ثم ربطوا القديس الأنبا صموئيل وولده يسطس وألقوا عليهما زيتاً ومضوا بهم وأضرموا فيهما النار حتى كادا أن يسلما الروح ، ثم تركوهما ومضوا ، فأرسل الرب ملاكه وأنقذهما وشفاهما من جراحاتهما وقال لهما : تشددا وتشجعا حتى تتمما جهادكما وستأتي عليكما تجارب وأتعاب ولكن الرب يسوع المسيح يحرسكما ويقويكما .
هروب القديس وسقوطه فى أسر البربر 
مرض أحد الرؤساء في مدينة أنطاكية وذهب الى الأسقف الذي شفاه القديس يسطس ليصلي من أجله لكي يُشفى فنصحه الأسقف بالذهاب إلى القديس يسطس في جبل شيهيت ، فقال له الرئيس :" يا أبي الأسقف عندما تقابلت مع القديس يسطس ألم تلمس جسده أو أسكيمه المقدس ؟! " فقال له الأسقف : نعم قّبلت يديه وأسكيمه مرات كثيرة . فأجاب الرئيس قائلاً : يا أبي إن الرب يعطي كل واحد بحسب إيمانه وأنا أؤمن أني أُشفى إن وضعت يدك التي لمست جسد القديس يسطس علي . ثم أخذ يد الأسقف بإيمان ووضعها على رأسه فنال الشفاء .
بعد مدة مضى الرئيس إلى جبل شيهيت ليتبارك من القديس يسطس ، ولما رآه قال له مباركة هذه الساعة التي أستحقيت فيها أن أراك لأنك سبقت وأتيت  بالروح بقوة الرب يسوع المسيح الكائنة معك وشفيتني ، وإني أخبرك أن سيدي الملك يدعوك لكي تمضي إليه في قصره ، فبكيَّ القديس ثم ترك المكان وهرب لئلا يأخذوه قهراً إلى الملك ، وقال في نفسه لعلي إذا رأيت أقاربي أتذكر الأيام التي كنت فيها معهم متمتعاً بمباهج الدنيا وملاذها الباطلة فيتوجع قلبي وأصبح ملوماً أمام منبر المسيح ربي . ومضى ليلاً إلى الوادي هارباً . وبغته وجده بعض البربر المجتازين فأمسكوا به وسبوه معهم إلى كورتهم . بحث الرئيس عنه فلم يجده ، فأخذ تراباً من الموضع الذي كان يسير فيه القديس وذهب إلى أسقفه وأخبر بما حدث .
بكى الأنبا صموئيل عندما علم بسبي ولده وإن ملاك الرب ظهر له قائلاً : لا يتوجع قلبك من أجل ولدك فإنك ستراه وتواري جسده في جبل البهنسا .
بيع القديس يسطس إلى رجل بربري يعمل حداداً ، وكان يكلفه بأن يضرب بالمطرقة فلم يكن يقدر لضعف جسده فكان البربري يأخذ قضيب حديد مُحميَّ بالنار ويلصقه بجسد القديس لكي يجبره على أن يضرب بالمطرقة وكان يحتمل كل هذا بصبر وشكر مدة ثلاث شهور ، وذات يوم أمره البربري أن يسجد لآلهته ولما رفض ضربه ضرباً شديداً جداً ، ولولا تحنن الرب وحفظه للقديس لقتله البربري ، وظل القديس مُلقى على الأرض ثلاثة أيام يعاني من شدة الآلام وكثرة العذابات ، ولكن على الرغم من كل هذه الآلام كان يشكر الله ويقول : أشكرك يا ربي يسوع المسيح وأبارك أسمك القدوس في كل حين يا ملكي وإلهي ، قد كثر الذين يحزنونني فإسمع صلاتي ، فإنك في كل حين عوني ورجائي ؛ وتحامل القديس على نفسه وخرج خارج المدينة فوجد مقبرة فسكن فيها أربعة شهور وأرسل الرب ملاكاً وخاطبه قائلاً : أنا ملاكك الحارس أفرح بتعبك وجهادك وصلواتك النقية وأصعدها أمام الله ، وأعرفك أنه بقي عليك تعب قليل وإضطهاد في هذه الأرض قبل أن تذهب إلى جبل البهنسا وهناك تكمل جهادك . ثم أعطاه السلام وأختفى ..
حروب الشياطين 
لما رأى الشيطان جهاده وصبره نصب له فخاً ليهلكه ، فأخذ شبه جماعة من الرهبان بشيخوخة كاذبة ، ثم قال واحد منهم : لقد تعبت وانا أبحث عنك . ولكن الملاك أرشدني إليك لأن شيوخ شيهيت يريدون أن يروك ، والرئيس الذي هربت منه يريد أن يهدم قلالي الرهبان لأجلك لأنك أبن رجل عظيم في المملكة ، فأرسل عسكر وفتش كل جبل شيهيت ، فلما رأينا أننا لا نقدر على إحتمال أوامرهم بحثنا عنك ، وهوذا العسكر مقبلين ليحملوك معهم .
ثم أظهر له الشياطين مركبات ذهبية وخيولاً وجنود بملابس فاخرة ، وصرخ واحد قائلاً : أسرع أخلع أسكيمك وأركب هذه المركبة قبل أن يحيط بك الجنود ويأخذوه منك وأنت قوي وتقدر أن تنجو من الخطية وأنت معهم . وكانت الشياطين المتشبهون بالجنود يصرخون قائلين : أسرعوا عروه أسكيم الرهبنة وألبسوه الحلة الملكية الجميلة . وجماعة أخرى تصرخ : منطقوه بالذهب وألبسوه الخاتم الذهبي وأحملوه على المركبة . وكانوا محيطين به بخيالات كاذبة . وإذ لم يسمع أسم الرب يسوع المسيح من أفواههم ولم يرى علامة الصليب المقدس مع أحد منهم أدرك أنهم شياطين ، فرسمهم بعلامة الصليب وصرخ قائلاً : أللهم إلتفت إليَّ وأعني فإني ضعيف . فأرسل الرب ملاكه فطردهم بخزي عظيم وعزى القديس وقواه .

أنتقال القديس إلى مصر 
ضلّ بعض التجار الطريق وصادفوا الموضع الذي كان القديس يسطس يسكن فيه فطلبوا منه أن يسقيهم ماء ، هم وعبيدهم وجمالهم وإذ خاف أن تكون خدعة شيطانية رسمهم بعلامة الصليب المقدس فقال له التجار : فلتكن بركة إشارة الصليب المقدس مع جميعنا . فلما سمع منهم هذا الإعتراف عرف أنهم مسيحيون فقام لوقته وأخذ جرة الماء ومضى إلى موضع العبيد والأبل فوجد ناقة مريضة فرش عليها قليلاً من الماء فشُيت وقفزت حتى وصلت موضع باقي الأبل ، فأسرع العبيد وأعلموا التجار بما جرى ، فمجدوا الله لأنهم تقابلوا مع رجل قديس . بات التجار مع القديس تلك الليلة . وليلتذاك رأى القديس جماعة من القديسين ، فقال لهم : من أنتم يا آبائي ؟ .
فقالوا له : نحن من أرض مصر وكنا نسكن جبل البهنسا ، وكان عدد الرهبان في هذا الجبل ثلاثة عشر الف راهب وهم يعيشون حياة ملائكية مقدسة ، ولما أثار دقلديانوس الإضطهاد على المسيحيين أستشهد قوم منا ، وأما نحن فأختفينا في هذا الموضع ، وبعد مدة قليلة أمسكوا بنا وأمرونا أن نبخر للأوثان ، وعندما رفضنا حبسونا في طافوس حتى تنيحنا ، وهوذا أخبرناك بسيرتنا وأتينا نفتقدك قبل أن تمضي إلى جبل البهنسا . وفتح الرب عيون التجار فرأوا الرؤيا التي رآها القديس فإزدادوا تعلقاً بالقديس ومحبة له . ثم مضوا إلى البربري وطلبوا إليه أن يشتروا القديس يسطس منه ، وأما البربري فقال لهم : أسألوه وحيثما أراد أن يذهب فليذهب فلن أمنعه بعد وهو حر من الآن ليذهب حيثما يشاء . وودع البربري القديس يسطس وأرسل معه عشرة عبيد أوصلوه إلى حدود مصر ثم عادوا إلى بلادهم . وطلب التجار من القديس أن يمضي معهم ولكنه رفض لأنهم كانوا من مدينة أنطاكية ؛ وأقام القديس بعد ذلك سنة كاملة عند راهب أسمه ببنودة ، ثم بعد ذلك مضى إلى جبل البهنسا .
تجربة كبرى في البهنسا 
كان الرب يصنع على يديه أشفية وعجائب كثيرة فذاع صيت قداسته في جبل البهنسا ، ومكث على هذه الحال ثلاث سنوات . وحدث أن مرضت جارية أحد أراخنة المدينة ، فلما سمعت عن المعجزات التي يصنعها القديس يسطس مضت إليه وفي الطريق قابلها رجل شرير فأخطأ معها ، ولما كَمُلت أيامها ولدت أبنين وكانت تريد أن تقتلهما ولكن بعض الناس رأوها فأخبروا سيدها . فأحضرها وأستفهم منها عمن صنع بها هذا الإثم . فقالت له ياسيدي أنه القديس يسطس .
فأرسل وأستدعاه وكنت أنا الأسقف الحقير حاضراً ( كاتب السيرة ) في بيت الأرخن ، فأمرت أن يؤتى به حتى أعلم حقيقة الأمر ، فلما دخل العبيد الذين أرسلهم الأرخن إلى قلاية القديس إنهالوا عليه ضرباً بالسياط وكانوا يصرخون قائلين : أيها الراهب الشرير أمضي إلى مكان إثمك . ولما سمع القديس هذا الكلام عرف أنها تجربة من الشيطان ، فرفع عينيه إلى السماء باكياً وقال : يا سيدي يسوع المسيح أمل سمعك إلى عبدك وشدد ضعفي حتى أكمل جهادي ، أعطني يا رب صبراً وأحتمالاً فإن لك المجد إلى الأبد آمين .
وربط الغلمان القديس يسطس بحبل وسحبوه على الأرض أمام الجميع وكانت الجارية واقفة تتهمه بوقاحة بينما ظل القديس صامتاً ، وكانت جموع كثيرة مجتمعة فسحبوه وجروه في شوارع المدينة وأسواقها وهم يستهزأون به ، حتى أنه قارب الموت وعندها ألقوا به خارج المدينة وألقوا بالطفلين إلى جواره .
لما رأى الرب صبره وأحتماله وشكره أرسل إليه ملاكاً فقواه وعزاه وشفاه من آلامه ، فقام وحمل الطفلين وأخذ يطوف بهما على المرضعات شهراً من الزمان ولكن الأرخن طلب من الأسقف أن يمنع كل من يقبل هذا القديس في المدينة ، فطردوه خارجها فكان يمضي إلى رعاة الغنم يُرضع الطفلين من لبنها سبعة شهور .
ولما علم الرعاة أن الأسقف منع كل من يقبل القديس طردوه هم أيضاً من موضعهم ، فمضى وهو لا يعرف أين يذهب وكيف يُرضع الطفلين . وكان من عادة القديس إذا وجد لبناً للطفلين يأكل وإن لم يجد لا يأكل هو أيضاً وكان يصلي قائلاً : أخطأت أمامك يا ربي يسوع المسيح ولهذا كثرت شدائدي . أنظر إلي وأرحمني ، أنا أعلم أنني أغضبتك وصنعت الشر أمامك فأنظر إلى بكاء الطفلين وأحفظهم يا معطياً طعاماً لكل ذي جسد ، دبر بقية أيام غربتي لكي لا أخزى أمام منبرك المرهوب فإن كل الأحتقار والآلام التي أحتملتها لا تساوي لحظة واحدة في مجدك . لك المجد إلى الأبد آمين . وكان الطفلان يبكيان من الجوع والقديس يحملهم في البرية باكياً مترجياً مراحم الرب ، فأرسل الرب له قطيعاً من الغزلان أتت إليه ووقفت بجانبه ، فعلم أن الرب أعد طعاماً للطفلين ففرح جداً وكان يرضعهما من لبن هذا القطيع  .
اللقاء مع أبيه الأنبا صموئيل 
وظهر ملاك الرب للأنبا صموئيل وأخبره بأن القديس يسطس في مدينة البهنسا وأنه يشتاق أن يراه ، فقام مسرعاً ومضى إلى جبل تلك المدينة ، وكان يسأل الرب أن يرشده إلى مكان القديس وإذا القطيع الذي يرضع منه الطفلان جاء قدامه وبدأ يحرك رؤوسه كمن يقول له أمشي معنا . فأحس القديس بأن الرب أرسلهم ليرشدوه إلى الطريق وسار معهم حتى وصلوا إلى القديس يسطس الذي ضرب له مطانية ثم قبّلا بعضهما بعضاً وجلسا يتحدثان بعظائم الله وعمله معهم ، ولما رأى الأنبا صموئيل الطفلين وعلم بالروح بحقيقة الأمر مضى إليهما وباركهما وقال للقديس يسطس يا ولدي الحبيب نعمة ربنا يسوع المسيح معك فقد أفضحت الشيطان وأبطلت سهامه ونزعت سلاحه وحاربت وغلبت مثل أنطونيوس ومقاريوس مبارك أنت يا أبني الحبيب لأنك صبرت على هذه الأوجاع ... فبكي القديس يسطس وقال بإتضاع : صلواتك يا أبي القديس أعانتني على إحتمال كل هذه الأتعاب .
نياحة القديس
بعد ذلك ظهر له ملاك الرب وقال له : أستعد فقد بقي لك زمن يسير وتمضي من هذا العالم وترث الملكوت الأبدي . وأختفى عنه الملاك ، ثم ظهر لي أنا الغير مستحق الأسقف هرياقوس وعرفني بسيرة القديس يسطس وببرائته ، وللوقت حاللته ، ولكن خطيئتي لم تدعني أمضي إليه وهو حي لأتبارك منه إذ خجلت حتى من أن أراه فظللت بعيداً إلى يوم نياحته ، وقد شهد الأنبا صموئيل أنه في اليوم الذي حاللته فيه تناول من الأسرار المقدسة ، وأقام سبعة أيام ثم تنيح بسلام ودُفن في مدينة البهنسا .
ولما علمت من الملاك والأنبا صموئيل بسيرة القديس يسطس مضيت أنا الأسقف هرياقوس إلى قبره باكياً نادماً على ما فعلته بجهالة وكذلك فعل شيوخ الرهبان.
وأما الأرخن والجارية فقد أصيب الأثنان بالخرس ولم يقدرا على الكلام البته إلى أن كتبت الجارية بيدها معترفة بأن القديس يسطس لم يلمسها قط ولم يكن هو فاعل الإثم . أما الأرخن فلما عرف من أعتراف الجارية بما كان شقّ ثيابه وبكى على قبر القديس معترفاً بخطيئته وللوقت أنطلق لسانه ولكنه ظل حزيناً نادماً على خطيئته .
القديسة مدرونة
حفظ الرب القديسة مدرونة ونجاها من سبي البربر حتى أتت إلى المدينة المحبة للمسيح البهنسا وسكنت هناك بكل تقوى وعفاف ، وبعد أن كتبت أنا الحقير هرياقوس سيرة أخيها يسطس من صغره إلى كبره وأسم مدينته ، عرفت من السيرة أنه أخوها . فقامت إلى قبره باكية بدموع غزيرة .
لماذا تبكي يا مدرونة على موت الطوباوي ؟...
ولما الحزن على من رفعت الملائكة نفسه بمجد وكرامة لا ينطق بها ؟...
ولما الدموع على من رافقته ملائكة النور إلى بلد النور؟
كفكفي دموعك وودعي أحزانك وأفرحي مع السمائيين فقد تتوج أعز أحبابك ومضى الغريب التائه الهارب من كل نياح جسداني إلى موطن راحته السعيد الدائم ، أفرحي يا مدرونة النقية وأستعدي للقائه ، وفي اليوم الموعود سيأتي يسطس المحبوب مع الملائكة والقديسين ليزفّوا روحك الطاهرة وهم يرنمون ترنيمة الغلبة وتسبحة الخلاص .
ولقد تعجب أهل المدينة من سر الأخوين القديسين وكيف أنهما من أنطاكية وأفترقا إضطراراً عن بعضهما وتغربا من أجل محبة المسيح ثم جمعهما الله مع بعضهما ثانية في مدينة البهنسا .

وتحتفل الكنيسة بتذكار نياحته في العاشر من شهر طوبه المبارك .
بركة صلوات وشفاعة القديس يسطس وأخته القديسة مدرونة تكون مع جميعنا ، ولإلهنا المجد الدائم أبداً أبدياً آمين .


إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. ماذا أقول أنا الحقير . انى أصغر واتضائل جدا أما هذه القامات العظيمة . ربنا ينفعنا بصلاتهم حتى نكمل ايام غربتنا فى خوف ومحبة الرب يسوع . الرب يعطينا روح الاستعداد بصلاتهم.

    ردحذف

Close Menu