بدأ اضمحلال اللغة القبطية في القرن التاسع ، وأخذت العربية تناهضها ، ويؤيد ذلك وثيقة هامة عن الرؤيا المنسوبة خطأ لأنبا صموئيل القلموني من القرن العاشر ، وتحتوي حثاً مؤثراً على الاهتمام باللغة القبطية ، ومنها نعرف أن اللغة العربية بدأت تحل محل اللغة القبطية في هذا القرن حتى في معظم جهات الوجه القبلي . وفي القرن الثالث عشر كانت اللغة السائدة هي العربية ، وقد وضع علماء القبط كل مؤلفاتهم اللاهوتية بالعربية . ورغم انتشار العربية فأن القبطية بقيت لغة التكلم في الوجه القبلي حتى القرن السابع عشر .
وفي القرن الثامن عشر لما قاربت اللغة القبطية على الزوال ، كتبها الاقباط بحروف عربية ، وقد كثر استعمال هذه الطريقة بدليل وجود نسخ كثيرة كتبت في هذا الوقت بالحروف العربية من بينها اثنتان بالمتحف القبطي .
وقد قال المقريزي الذي عاش في القرن الخامس عشر عند كلامه عن دير موشه في كتابه المعروف : " والأغلب على نصارى هذه الأديرة معرفة القبطي الصعيدي ، وهو أصل اللغة القبطية ، وبعدها اللغة القبطية البحيرية ، ونساء نصارى الصعيد وأولادهم لا يكادون يتكلمون إلا بالقبطية الصعيدية ، ولهم معرفة تامة باللغة الرومية ، اه . بحروفه " .
وقد ذكر ماسبيرو Maspero , G. في محاضرته - عن صلة المصريين الاقدمين بالمصريين الحاليين - التي ألقاها في نادي رمسيس في 19 / 11 / 1908 : " ولكن من المؤكد أن سكان صعيد مصر كانوا يتكلمون ويكتبون باللغة القبطية حتى السنين الأولى من القرن السادس عشر في أوائل حكم الأتراك ، ويؤخذ من بقايا كتابات ذلك العصر أن العنصر القبطي كان لم يزل قوياً محترم الجانب في تلك الأنحاء ، ولم يمر قرن ونصف قرن فقط حتى قدم سائح فرنساوي في أيام لويس الرابع عشر آخر كاهن قبطي يجيد التكلم باللغة القبطية والمرأءة العجوز التي تنازعه هذا الأمتياز المحزن " .
وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر أنتهى الكلام بالقبطية ، ولكنها بقيت لغة الكنيسة ، فكان رجال الأكليروس في ذاك الوقت حريصين على المحافظة على التراث الباقي من القبطية الذي يربطهم بأجدادهم . بهذه الروح الواعية الطيبة عمدوا إلى أن يقدسوا القداس وألا يتكلموا في الهيكل إلا بالقبطية . إكليروس حقاً يستحقون كل تقدير وأحترام ، إذ أنهم رغم ما انتابهم في هذين القرنين من الفقر والجهل لم يهملوا لغة أجدادهم ، وكانوا يعتقدون أن الصلاة داخل الهيكل بغير القبطية أمر لا تقره القوانين الكنسية ، وهكذا ظلت القبطية لغة الكنيسة حتى يومنا هذا .
وفي هذا القرن _ قرن الحضارة والمدنية والعلوم _ يتزايد كل يوم اهتمام الجامعات الغربية بدراسة اللغة القبطية وأصولها ولهجاتها ، تزايداً يدعوا الأكليروس إلى العناية بدراستها وتلاوة القداس بها .
- أثر اللغة القبطية على العامية المصرية .
وبالرغم من أن اللغة القبطية قد اختفت أمام العربية كلغة كلام وتعامل إلا أن ذلك لم يحل دون أن تضفي شخصيتها المصرية على اللهجة العامية المصرية وأن تصبغها بصبغة جعلت اللهجة العامية في مصر تظهر بمظهر خاص يختلف عنه في الأقطار العربية الأخرى ، كما ظلت العادات المصرية القديمة حية حتى الآن في مصر .
- أثر اللغة القبطية خارج مصر .
بالرغم من أن اللغة القبطية لغة قومية ، إلا أننا نرى لها آثاراً عالمية . وكثير من هذه الآثار يدل على أن اليونان وغيرهم لم يكونوا سوى حلقة اتصال بين علوم المصريين وأوروبا ، وأن المصريين هم أصحاب هذه العلوم . ونذكر من هذه الآثار بعض ألفاظ واصطلاحات قبطية آتية من منبعها في مصر ، انتشرت في اللغات الأوروبية ، ولا تزال مستعملة في علومنا إلى يومنا هذا ، مثال كلمة " كيمياء " آتية من " كيمي" Kimi وهو الأسم الذي كان يطلقه المصريون على بلادهم . وقد أطلق العرب على هذا العلم اسما مقتبسا من اسم أرض قدماء المصريين اعترافا منهم بما بلغته مصر من هذا العلم . . . اذن فمعنى كيمياء " علم مصر " .
وتوجد أمثلة أخرى من هذا القبيل ، مثل كلمة " أمونيات " فهي آتية من " آمون " إله الفراعنة القدماء ، لأن هذه المادة وجدت بالقرب من معبد آمون بسيوه .
والكلمة الأوروبية pharamacie التي معناها صيدلية أصلها أيضا من مصر ، فقد وجدت كلمة phar-ma-ki مكتوبة على لوحة للإله المصري " تحوت" . وهذه الكلمة معناها " الذي يعطي الامان والشفاء " .
ومن الألفاظ القبطية التي انتشرت في اللغات الأوروبية : كلمة الواحة ( وازيس - oasis ) ، وكومي أي الصمغ ( في الإيطالية جوما وفي الفرنسية جوم وفي الإنجليزية جم ) ، والسوسن ، والايبيس وشيهات .
وهي منطقة وادي النطرون ( أسقيط) ، ومنها اسم الناسك في اللغات الأوروبية ، والأبنوس ، ولعل كلمة طوبة أي الآجر مثل من الالفاظ التي نعرف تاريخ انتشارها في الخارج . فقد أخذها العرب عند فتحهم لمصر عن القبطية وحملوها معهم إلى الأندلس فدخلت الاسبانية ، ثم فتح الأسبان جنوب أمريكا فأنتشرت هناك لفظة ( أدوبي) . ثم اتصل الأمريكيون الشماليون بأمريكا الجنوبية فدخلت الكلمة في اللغة الانجليزية بشكلها الأسباني .
ومن أثر القبطية أيضا أن القديسين كيرلس المسمى بالفيلسوف وأخاه ميتودوس عندما وضعا الأبجدية الروسية في القرن التاسع الميلادي أدخلا بعض الحروف القبطية المأخوذة من الديموتيقية في الأبجدية الروسية ، وهي شاي Shai فاي Phai .
كيف حفظ علماء المصريين لغتهم من الضياع
تدلنا دراسة تاريخ اللغات على أن اللغة تزدهر تبعاً لأزدياد حضارة شعبها وينحط شأنها اذا ما عانى الشعب انحطاطا أدبيا او سياسيا . ولم يكن لأية لغة في بدء نشأتها قواعد نحو أو معاجم ، بل المعروف أن هذه المعاجم والقواعد كانت توضع حينما كان يُخشى على أصول اللغة من أن يصيبها تغيير ، سواء بدخول لغة أجنبية إلى البلاد أو بانحطاط العلوم ، أو كما يحدث غالبا في فترات الركود الادبي أو العلمي أو السياسي .
وتاريخ أية لغة يدل على أنه يتوارثها الخلف عن السلف بالسماع والتلقين ، فاذا كانت من اللغات التي تكتب تلقنها الناشيء من والديه صحيحة الالفاظ سليمة القواعد ، ثم يتعلم طريقة كتابتها وقراءتها .
غير أنه مع مرور الزمن واختلاط الشعوب مع بعضها ، سواء أكان هذا الاختلاط ناشئا عن نشوب الحرب أم من المعاملات التجارية ، تدخل ألفاظ غريبة على اللغة فتكون لغة التخاطب أو اللغة الدارجة ، وعندئذ يعمد علماء اللغة إلى وضع قواعد نحو لصيانة اللغة من التحريف وضبط عباراتها وألفاظها مع التغيير والتبديل ، ثم يتبع ذلك وضع المعاجم لشرح كلماتها الغامضة وايضاح الكلمات الدخيلة عليها من لغة أخرى .
والمعروف أنه حينما استولى العرب على مصر سنة 640 للميلاد كانت القبطية وقتئذ حافظة لكيانها رغم انتشار اللغة اليونانية . ومما يشهد على سلامة اللغة حتى ذلك الوقت أنه لم يصلنا أي كتاب خاص بالقواعد أو المعاجم حتى ذلك التاريخ . ومع اضمحلال القبطية - على نحو ما رأينا - وانتشار العربية أخذ علماء الأقباط منذ القرن الثالث عشر يضعون مؤلفاتهم بالعربية .
ولهذا عمد هؤلاء العلماء إلى وضع قواعد مختصرة للغة ، ثم تدوين مفرداتها لحفظ اللغة من الضياع .
ويدلنا ما وصل إلى أيدينا من كتب التاريخ أن الذي استبدل اللغة بالعربية في ديوان مصر هو عبد الملك بن مروان أمير مصر في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين ه ( 704 - 705 م) ، وانه صرف انتناش عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الفزاري من أهل حمص . وقد ورد في سيرة الاسكندر البطريرك الثالث والأربعين ( 705 - 730 م ) " أن بنيامين الشماس ترجم للاصبغ الانجيل وكذلك كتب الكيمياء بالعربية " .
أما أول من ألف كتابا بالعربية من الأقباط فهو ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين الذي كان معاصرا للأنبا أفرام البطريرك الثاني والستين ( 975 - 979 م) ، وهو الذي ترجم سيرة الآباء البطاركة مما وجد بدير أبا مقار وبدير نهيا وما وجده في أيدي النصارى ، من القلم القبطي واليوناني إلى العربي الذي كان شائعا آنئذ ، وقد استعان بمن يجيدون هذه اللغات من الاخوة المسيحيين . ويرجح أن الذي ساعده في تصحيح وتنقيح العبارات العربية هو الواضح بولس بن رجا الوارد خبره في سيرة أنبا فيلوثاؤس البطريرك الثالث والستين ( 978 - 1003 م) .
ويقول مالون في مقال عنوانه " مدرسة العلماء المصريين " أنه في القرن السابع كانت البلاد تتكلم القبطية وفي القرن الثاني عشر كانت تتكلم بالعربية .
ويجدر بنا قبل الخوض في هذا الموضوع المتشعب الأرجاء أن نبسط للقارئ بإيجاز معنى المقدمات والسلالم . المقدمات أطلقت على قواعد مختصرة للغة سميت مقدمة لأنها تمهد السبيل أمام الأنسان ليفهم أصول اللغة . والسلالم أطلقت على مفردات ذات ترتيب خاص يختلف عن الترتيب الابجدي المعروف في المعاجم الآن ، وسميت كذلك لأنها الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان للتدرج في فهم معالم اللغة والوصول بواسطتها إلى أعلى درجات المعرفة . وكان يطلق على كل انسان يعرف الترجمة القبطية " سلمي " ، واستمرت هذه التسمية شائعة لغاية أواخر القرن التاسع عشر .
ونورد هنا المقدمات والسلالم التي وصلتنا حتى الآن :
1 - المقدمات
1 - مقدمة السمنودي وهو الأنبا يؤنس أسقف سمنود .
2 - علم الدين ) قيصر ، وتسمى بالتبصرة ( ومعناها إنارة الطريق لتعليم اللغة ) .
3 - مقدمة أبو الفرج بن العسال ( من عائلة العسال الشهيرة )
4 - مقدمة الوجيه القليوبي الموسومة بالكفاية " بمعنى أنها كافية لتعليم قواعد اللغة " . وهو الراهب الفاضل يوحنا المعروف بالقليوبي . له ترجمة سفر المزامير من القبطية إلى العربية ، يؤيد ذلك ما جاء بمقدمة سفر المزامير رقم 1 مقدسة بكنيسة السيدة العذراء الشهيرة بقصرية الريحان
5 - مقدمة الاجل التقة ابن الدهيري . انتقد فيها من تقدمه من النحاة . وهو الأنبا خرسطوذولوس مطران دمياط .
6 - مقدمة الأنبا أثناسيوس أسقف قوص بالبحيرية والصعيدية . وعنوانها " قلادة التحرير في علم التفسير " . ولا توجد منها نسخة في المتحف القبطي . عاصر هذا الأب الأسقف أبا غبريال البطريرك 86 ( ١٣٧٠ - ١٣٧٨ م ) واشترك معه في اعداد الميرون بدير أبا مقار سنة 1090 للشهداء ( 1374 م) وقد وصف هذا الأب عمل الميرون وصفاً مسهباً ودون القطع التي تليت أثناء اعداده ، وكان بعضها باليونانية وبعضها بالصعيدية والبحيرية ، كما أنه وصف السفر إلى دير أبا مقار مع الأب البطريرك والآباء الأساقفة ونزولهم من الدير إلى المعلقة بعد زيارة الأديرة الاخرى .
وموجودة نسخة من هذا المؤلف بالقلاية العامرة بالبطريركية رقم 106 طقس .
7 - مقدمة أبي شاكر بطرس بن أبي المكرم بن المهذب المعروف بابن الراهب . وذكر مالون ص 232 - 234 أن له مقدمة طويلة جمعها من 24 مصدرا ذكر بينها سلم أسقف سمنود ( وهو السلم المتداول في عصرنا ) وسلم أسقف سخا وسلم ابن الرحال ( وهما غير معروفين ) .
وتوجد مقدمتان صغيرتان لم يتحقق مالون من واضعهما . ويقول أنه من الصعب الجزم بنسبتهما إلى أبي شاكر المشار إليه أو واضع سلم السمنودي . غير أنه ورد في نسخة خطية بالبطريركية أن هاتين المقدمتين هما لأبي شاكر بن الراهب ( وهذه المخطوطة رقم 30 منوعة ) .
2 - السلالم
1 - سلم السمنودي وهو عبارة عن مجموعة كلمات مأخوذة من الأناجيل والرسائل وسفر المزامير والكتب الكنسية
2 - السلم المقفى والذهب المصفى للشيخ أبي اسحق بن العسال أخي أبي الفرج السالف ذكره . اتبع فيه اولا الترتيب الهجائي وثانياً التشابه اللفظي للكلمات والسجع . مثل حرف :Alpha : ظلم Adikia ، قديسة Agia ، أنبا Abba .
حرف Ti : الأكلة Amety ، دعوت Aimoty ، الجحيم Amenty وذكر مالون في مقاله ص 220 أن أبن العسال ألف هذا الكتاب في دمشق ( لأنه كان وزيرا لأحد سلاطين الدولة الأيوبية ) فحدث حادث لأهل ملته ( الاقباط ) فاحترق الكتاب ( السلم الذي كان يقوم بوضعه ) . وهذه الحادثة ذكرها المقريزي في كتابه " المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار " ، طبع بالمطبعة الأميرية سنة 1270 هجري ، ص 497 في القسم الخاص بالاقباط عند ذكر أثناسيوس بن كليل البطريرك 76 ( 1250 - 1260 م ) " وفي أيامه ثارت عوام دمشق وخربت كنيسة مريم بدمشق بعد احتراقها ونهبها وقتل جماعة من النصارى بدمشق ونهب دورهم وخرابها في سنة ثمان وخمسين وستمائة بعد واقعة عين جالوت وهزيمة المغل " . ثم أن أبن العسال لما عاد بلاده المصرية _ كما يقول مالون ص 221 _ جمع الكتاب معتمدا على سلم المسعودي فجاء أوفى من الأول وساعده في ذلك القس عز الكفاءة أبو العز مخلص بدير والقس عبد المسيح البلبيسي ، واطلع عليه الأسقف أبا مرقس أسقف كرسي شندوب وأنبا ابرام أسقف نستروه وكرسي أتريب ثم علم الدين كاتب قيصر ويوحنا القليوبي . والمعروف أنه قد أشار على الأخيرين بوضع مقدمتيهما التي سبقت الإشارة إليهما .
3 - السلم الكبير أو السلم المقترح ، تأليف شمس الرياسة القس ابن كبر قسيس كنيسة المعلقة الذي تنيح في سنة 1040 ش ( 1324 م ) . لم ينهج في تأليف هذا الكتاب نهج من سبقه ، ولكنه نحا نحوا جديدا بأن وضع الكتاب في عشرة أبواب مقسمة إلى 30 فصلا ( أدمجت بعض الفصول في بعض النسخ فأصبح عددها 25 فصلا) ، وذلك بأن أفرد فصلا للكلمات المستعملة في كل موضوع أو مهنة ، فجمع مثلا أسماء اللَّه تعالى في فصل ' وأدوات النجارة في فصل آخر ، وأسماء الأنهر والأقاليم والتلال والجبال في فصل ، وأسماء الحبوب والبقول والزروعات في فصل . . . إلخ .
وقد وضع المسيو مونييه مؤلفه السلم القبطي ( طبع بالقاهرة 1930 م ) ، وهو يحوي : مقدمة السمنودي بالصعيدية ، سلم السمنودي بالصعيدية ، مفردات بالصعيدية وترجمتها باللغتين العربية واليونانية مرتبة كالترتيب الذي اتبعه أبو البركات في السلم المقترح .
كما نشر كيرشر Kircher أربعة من هذه المؤلفات وهي : المقدمة البحيرية لأنبا يوحنا السمنودي ، والمقدمة البحيرية لابن كاتب قيصر ، وسلم أبي البركات شمس الرئاسة ، وسلم أبي اسحق بن العسال .
الاستاذ يسى عبد المسيح
أقرأ أيضاً الجزء الثالث الآثار الأدبية للغة القبطية
0 تعليقات