كنت قد شرعت في إعداد بحث عن لغتنا القبطية ، لغة الأصوليين المصريين ليس لغة المسيحيين فقط بل كل من ينحدروا من أصل مصري عريق ، وكيف آل بنا الزمن حتى أصبحت لا يتحدث بها إلا فئة قليلة ، ولا تستخدم إلا في الصلوات الكنسية من قداسات وتسبحة ، ومع أن في هذا دلالة واضحة على عراقة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، إلا أنه من المحزن أن لا تحتل اللغة القبطية لغة الأجداد هذه المساحة الضئيلة من الإنشغال بالإلمام بالعلوم ، برغم أنها تحتفظ بين طيات كتبها بالكثير من المعارف التي يتسابق جامعات العالم في كشف أسرارها وريادة تعليمها .
ولم أجد أنني سأستطيع مهما أُتيت من الجهد وسعة الإطلاع أن أنظم بحث مثلما أجاد به الأستاذ يسى عبد المسيح الذي قضى عمره كله بين الكتب القبطية وتعلم وعَلم اللغة القبطية وأتمنى أن ينهل الجميع من بحر علمه ، ونروي ظمئنا من تاريخ ولغة وعلم الأجداد الذين تحدثوا باللغة القبطية .
نبذة عن العالم الجليل كاتب البحث
كاتب هذا البحث هو الأستاذ يسى عبد المسيح ، ولد الاستاذ يسى عبد المسيح ببلدة شنين النصارى بالقرب من بني سويف في 28 / 7 / 1898 ، وبعد أن أنهى دراسته حضر إلى القاهرة والتحق بالكلية الإكليريكية ، وفي عام 1922 حصل على دبلوم الدراسات اللاهوتية ثم درس اللغة القبطية بالجامعة المصرية القديمة بالقاهرة ، في 22 / 12 / 1922 التحق بالمتحف القبطي بمصر القديمة ليعمل بمكتبة المتحف وظل هناك حتى بلوغه سن المعاش ، وفي أثناء عمله بالمتحف قام بتدريس اللغة القبطية بالكلية الاكليريكية لعدة سنوات.
قام بعمل إنجاز ضخم في فترة عمله أميناً لمكتبة المتحف القبطي إذ قام باعداد فهارس لمكتبة المتحف التي تحتوي مجموعة ضخمة من الكتب .
له الكثير من المقالات باللغتين العربية والانجليزية متعلقة بالذكصولوجيات والابصاليات التي تستخدم في التسبحة اليومية بالكنيسة القبطية وابصاليات المناسبات وتاريخ الآباء القديسين وأخرى عن الرهبنة القبطية واللغة القبطية والاصوام في الكنيسة القبطية.
واشترك في ترجمة ونشر تاريخ البطاركة للانبا ساويرس ابن المقفع وقامت جمعية الآثار القبطية بالقاهرة بنشر هذا المخطوط النفيس .
رحل الاستاذ يسى بسلام عن عالمنا في صباح الاثنين 12 / 5 / 1959 في فترة الخماسين المقدسة التي كتب عنها كثيراً وفي فرحة الكنيسة كلها بقيامة الرب .
تمهيد
كانت مصر تعرف قديماً ، عند الشعوب السامية المجاورة لها ، بأسم مصر في الأشورية ومصرين في الآرامية ، ومصرايم في العبرية . كما عرفها العرب بأسم مصر . . والمصر في اللغات السامية تعني الحد . وقد أطلقت الشعوب السامية من أشوريين وأراميين وعبريين وعرب . على البلاد المتاخمة لهم " مصر " . كما أسموا سكانها بالمصريين . ثم أُطلقت مصر على القطر عامة . ( ومما يستحق الملاحظة أن كلمة فينيس finis في اللاتينية تعني حد ، وقد أطلق الرومان هذه الكلمة بصيغة الجمع على القطر أيضاً ) .
بيد أن هناك من يذهب إلى أن كلمة مصر هي لفظ مُعرب عن العبرانية التي نقلته فيما نقل اليهود عن المصرية القديمة ففي المصرية القديمة " ما . سي . را " تعني " مكان ابن أو أبناء الشمس " وسمى المصريون بلادهم بأسم " كيمي " kimi أي الأرض السوداء ، والمأثور أن كيمي أو خيمي مأخوذة من " حام " بن نوح ، وحام أيضاً تعني أسود . وقد ورد في المزامير قول داود عن مصر " أرض حام " " ابكاهي انكام " وأسماها الأشوريين في نقوشهم الاسفينية " هيكوبتاه" وهو الأسم الذي كان يطلقه المصريون على عاصمة مملكتهم منف ، ومعناه " بيت روح بتاح " ، وكان اطلاق هذا الأسم على المملكة كلها من قبيل اطلاق العاصمة على القطر . وسمع اليونان هذا الأسم فأخذوه عنهم منذ عصور قديمة وأسموها " ايجبتوس " . وورد اسمها هذا عدة مرات في شعر هوميروس . فإذا حذفنا علامة الرفع " وس" ثم الحركة الأولى التي ظنها العرب حرف استهلال خلص لنا بعد ذلك اسم قبط .
ولم يقتصر المصريون على تسمية بلادهم بأسم ماسيرا أو كيمي ، وإنما ورد كذلك بالخط الهيروغليفي عدة أسماء أطلقها المصريون على بلادهم منها " بك " وهو أسم لشجر كان يُزرع كثيراً بمصر ، و " تميري" أي أرض الفيضان ، و " نهي " وهي شجرة الجميز لكثرته بمصر .
غير أن أكثر الأسماء ذيوعاً هو الأسم الذي بقى في اللغة القبطية سائداً حتى اليوم وهو أسم " كيمي " .
اللغة القبطية .
اللغة القبطية هي اللغة الكيميتية Metrem en Kimi التي كان يتكلم بها سكان وادي النيل منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد إلى ما يقرب من القرن الثامن عشر بعد الميلاد ، وهي بمثابة اللهجة الدارجة للغة المصرية القديمة المعروفة بأسم القلم الهيروغليفي الذي أُستعمل في النقش على المسلات والمعابد ، وأصبحت هذه اللهجة الدارجة فيما بعد اللغة السائدة في البلاد ، شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى في سائر أنحاء العالم .
وبمرور الزمن وتغير نظام الحكم مرة بعد مرة ، وبتوالي احتلال البلاد المصرية من عناصر أجنبية ، أُدخل على اللغة القبطية تراكيب وكلمات وتعبيرات أغلبها يونانية مع اعلال وابدال كما هي العادة عند دخول عناصر غريبة في أي لغة . وكانت اللغة تنمو وتزدهر طوراً وتضعف تارة تبعاً لحالة الشعب سياسياً واقتصادياً وأدبياً . إلى أن كانت القرون الثاني والثالث والرابع للميلاد فشهدنا هذه اللغة ، وقد كُتبت بحروف يونانية وأطلق عليها أسم اللغة القبطية ، تصبح اللغة المتداولة في الكتابة والكلام وتصل ذروة مجدها .
وكانت الحروف اليونانية قد أُدخلت على القبطية قبل الميلاد ، بدليل العثور على نصوص قبطية وثنية ، أي لغتها مصرية وحروفها يونانية وبها حروف ديموتيقية . وهذه النصوص محفوظة في كل من متحفي باريس ولندن . كما أنه استمر استعمال الكتابة الديموتيقية حتى القرن الرابع للميلاد خصوصاً في أنس الوجود بأسوان حيث تأخرت عبادة الأوثان إلى ذلك العهد . أما أحدث كتابة هيروغليفية وجدت في مصر فيرجع تاريخها إلى عهد الأمبراطور داكيوس ، أي إلى منتصف القرن الثالث الميلادي .
وقد حدد الدكتور ورل " Worrel" التاريخ الذي أُبطل فيه استعمال الكتابة الهيروغليفية والديموتيقية بقوله " استمر استعمال الكتابة الهيروغليفية إلى سنة 394 م ، والنصوص الديموتيقية إلى سنة 452 م " .
وتنحصر التغيرات والتطورات التي أُدخلت على اللغة القبطية فيما يلي :
1 - كتابة القبطية بحروف يونانية بدلاً من الديموتيقية ، وادخال تعبيرات وكلمات يونانية وأجنبية عليها وخصوصاً في العصر المسيحي .
2 - تغيير حرف بآخر أو تقديم وتأخير حرف ، مثال ذلك " ن ت ر " في المصرية القديمة بمعنى " إله " أصبحت في القبطية " ن و ت ي " Noty بعد حذف الراء ، و " و ن س " بمعنى " لسان " أصبحت " ل س " Las .
3 - الحروف المتحركة معدومة في المصرية ولكنها موجودة في القبطية ، مثل " خ ت ب " في المصرية القديمة بمعنى " قتل " أصبحت " خ و ت ي ب " Khoteb .
4 - وجود كلمات في القبطية لم يعثر عليها في المصرية ، ولعلها كانت موجودة واندثرت .
5 - كلمات مصرية أهملتها اللغة القبطية .
الجزء الثاني مراحل تطور اللغة القبطية
0 تعليقات