سيرة القديس العظيم الأنبا مقار المصري ( الكبير )




هو القديس مكاريوس الكبير أو أبو مقار ويعرف بمقاريوس المصري تمييزاً له عن آخر يعرف بمقاريوس الأسكندري وثالث يعرف باسم مقاريوس الأسقف ، فالثلاثة من كبار الرهبان ، ويذكرون معاً بأسم " ثلاثة المقارات القديسين " ، والقديس مقاريوس المصري هو الأشهر بين الثلاثة ولذلك يسمى بمقاريوس الكبير ، وهو صاحب الدير العظيم المنسوب لأسمه " دير أبو مقار " وهو من أقدم أديرة وادي النطرون في الصحراء الغربية جنوبي الأسكندرية ، أو بالقرب من كيلو ٩٢ طريق القاهرة اسكندرية الصحراوي ، والقديس مقاريوس هو أول من سكن وادي النطرون ولذلك يعد أباً لرهبان وادي النطرون جميعاً ، وصار الوادي كله ينسب إليه فيسمى " برية مقاريوس " أو " إسقيط مقاريوس " ،  وكلمة إسقيط بمعنى ناسك فأصبحت البرية كلها منسوبة إلى الناسك مقاريوس. 
نشأته
القديس مقاريوس المصري هو إبن لوالدين تقيين قديسين . كان أبوه كاهناً يدعى ابراهيم من إقليم ( منف ) الجيزة أشتهر بالورع والفضيلة والعطف والبر بالفقراء ، وأمه كانت طيبة نقية ممدوحة السيرة في بلدتها تدعى سارة ، وكانا عاقرين . وقد حدثت في زمانهما حوادث شغب ونهب وسلب بسبب الثورات المحلية التي قامت في مصر أيام حكم أخيلوس ( ٢٩٥ - ٢٩٧ م ) خلال فترة حكم الامبراطور الكافر دقلديانوس . وحدث أن اعتدى بعض اللصوص على منزلهما وسلبوهما كل ممتلكاتهما ، لكن الله لم يتركهما ، وفي إحدى الليالي رأى القسيس في منامه النبي ابراهيم الخليل يعزيه عما فقده من مقتنيات ، ويبشره بأن امرأته ستحبل وتلد إبناً صالحاً وسيكون له شأن عظيم ، وسيشيع ذكره في كل مكان ويكون أباً روحياً ومرشداً لكثيرين ، وقائداً لعُباد يخدمون الله على نحو خدمة ملائكة السماء ، وقال له ابراهيم الخليل أنه يسمي ولده بإسم ( مقار ) أو مكاريوس ومعناه سعيد او " مبارك " ، لأنه سيكون سعيداً بروحانيته وبرعاية الله له ، وسيسعد الآخرين بحسن إرشاده وتوجيهه .

وذات يوم في رؤيا الليل أمر ملاك الرب والديه أن يرحلا إلى شبشير (منوفية وتسمى حالياً شبشير اطملاي ) حيث وُلِد الطفل مقاره سنة ٣٠٠م . وكان الطفل يتربى وينمو في مخافة الله على يد أبويه الصالحين ولما شب واشتد عوده بدأ يذهب مع أبيه إلى المزارع وتعلم فلاحة الأرض وإتسع رزق والديه جداً وبدت النعمة على الشاب مقاره فكانوا يلقبونه ب" الشاب الحكيم " . ومن فرط محبة كهنة القرية له أخذوه إلى أسقف الناحية بدون علم أبيه الكاهن ورسموه شماساً ( أناغنوستيس ) أي قارئاً .
كان الشماس مقاره ( الأغنسطس ) حافظاً مخافة الله بالطهارة وتلاوة الكتب المقدسة بالكنيسة وكان يفهم بقلبه الذي يقرأه بفمه ، فألزمه كهنة الكنيسة أن يكون خادماً للبيعة ( أي ثبتوه شماساً عليها ) .
بدأ الشاب الشماس مقاره يتردد على أطراف قريته بالصحراء المتاخمة لها لأجل الخلوة على نحو ما عمل القديس أنطونيوس في بدأ حياته النسكية . وكان قد تعود أن يذهب مع الجمالين ( الذين يقودون الجمال ) الأجراء في أرض أبيه ، لجلب النطرون من جبل النطرون ، وهكذا أتقن خدمة الإبل ( الجمال ) لذلك كان يدعى مقاره الجمال .

زواجه

إزدادت محبة الناس له ولم يكتفوا به شماساً بل أراد الكهنة والشعب أن يرسموه قسيساً ليقوم بالخدمة الدينية في سلك الكهنوت ، ولكن قبل أن يُرسم قسيساً كان لابد أن يتزوج . فلا زواج بعد الرسامة ، وهنا أجمع الشعب والكهنة على ضرورة زواجه من امرأة ، وكذلك ألح الأبوان عليه بالزواج شأن كل الوالدين الذين يسرهما أن يريا ولدهما له زوجة وأسرة . أما هو فأبى بشدة واعتذر بعدم رغبته في الزواج ، وإعتزامه على التبتل وحياة العفة الكاملة وأن يكون مقدساً لله روحاً وجسداً.  ولكن أحداً لم يصغ لرغبته فألزموه بالزواج ، وعقدوا له على شابة فاضلة من أهل بلدته ، فرضخ للأمر على مضض ، ولكنه لم يقترب إليها ولم يمسها .

بعد أيام قلائل استأذن أباه في أن يمضي بجمال أبيه مع الأجراء يحملون النطرون من جبل النطرون إلى مصر ، وفي إحدى الليالي ، وكان نازلاً بالجبل مع الجمالين ، وكان متعباً فنام ، ورأى في منامه كائناً نورانياً يقول له : " إن الله يقول لك إنني أعطيك هذا الجبل ميراثاً لك ، وسيكون لك بنون روحانيين ينقطعون لعبادتي.. ثم قال له انهض الآن من نومك ، وامض بسلام إلى موضعك " فاستيقظ مبهوراً مذهولاً وبدا عليه شرود الفكر ، فسأله رفاقه عما أصابه فلم يجيبهم بشئ وبعد ثلاثة أيام من الرؤيا رجع من جبل النطرون إلى بيته فوجد زوجته مريضة بحمى شديدة ، وما لبثت حتى ماتت وهي بتول .
أما مقاريوس فقد ظل في بلده يعمل بنشاط ليعول أسرته وكان أبوه قد طعن في السن وصار مقار يخدم أباه في شيخوخته ، وكان يقضي في المساء وقتاً طويلاً في الصلاة والعبادة ، فلما توفى أبوه ، لاحظت أمه أنه قد بدأ يوزع كل ما يملك على الفقراء وأصحاب الحاجات ، فلامته أمه على ذلك وقالت له : ما هذا الذي تصنعه يا ولدي ؟ إنك إذا بددت كل مالك صرت محتاجاً لآخرين ، وأنت لاتزال بعد شاباً ، فلم يسفه نصيحة أمه ولم يحزن قلبها ، بل وافقها وقال لها : سأعمل بنصيحتك ولا أعصى لك امراً . ( الرهبنة القبطية : الأنبا أغريغريوس ) .
وبعد ستة أشهر ماتت أمه فدفنها بجوار أبيه.. وأقبل العيد فأولم وليمة دعا إليها الفقراء ترحماً على أبيه وأمه . ثم قصد مقاريوس بعد ذلك إلى راهب متوحد بالقرب من قريته . وبات عنده في صومعته ورأى المتوحد وهو يصلي رؤيا جميلة ..... رأى مقاريوس وجموعاً من الرهبان محدقة به ، وكلهم يضيئون وعلى أكتافهم أجنحة كالطيور.. ففهم المتوحد مغزى هذه الرؤيا ..ثم بارك المتوحد الشاب مقاريوس وصرفه من عنده وقال له: ما عزمت عليه سر فيه ، فإن دعوتك هي من الله.  فمضى مقاريوس وفرق كل ما بقي معه من ماله على ومقتنياته على الفقراء والمساكين ، ثم ذهب فسكن في صومعة خارج القرية متعبداً في هدوء وسكون. 
غير أن أهل قريته لم يتركوه في هدوء ، إنما رغبوا في رسامته قسيساً ليخدمهم ، فحملوه على الرغم منه وساقوه إلى أسقفهم فرسمه قسيساً.  
هروبه من القسيسية: 
 جاء عن القديس مقاريوس الكبير انه قال: 
 اني في حال شبابي كنت جالساً في قلاية في مصر فأمسكوني وجعلوني قساً لضيعة (قرية). وإذا لم أؤثر أن أتقلد هذه الرتبة هربت إلى مكان آخر. حيث كان يأتيني رجل علماني تقي وكان يخدمني ويبيع عمل يدي. 

تجربته الأولى:
 
 في يوم من الأيام حدث أن بتولاً في ذلك المكان سقطت في زنى وحملت، فلما أشهرت سئلت عمن فعل معها هذا الفعل فقالت: المتوحد ..؟! 
 وسرعان ما خرجوا عليَّ وأخذوني باستهزاء مريع إلى القرية وعلقوا في عنقي قدوراً قذرة جداً وآذان جرار مسودة مكسورة. وشهروا بي في كل شارع من شوارع القرية وهم يضربونني قائلين: " أن هذا الراهب أفسد عفة ابنتنا البتول، اخزوه" ، وهكذا ضربوني ضرباً مبرحاً قربت بسببه إلى الموت إلى أن جائني أحد الشيوخ فقال لهم: " إلى متى هذه الاهانة، أما يكفيه كل ذلك خجلاً "  فكانوا يشتمونه قائلين: " ها هو المتوحد الذي شهدت له بالفضل، انظر ماذا فعل" . 
وأخيراً قال والدها: " لن نطلقه حتى يأتينا بضامن انه يتعهد بالقيام باطعامها ويدفع نفقة لولادتها إلى أن يتربى الطفل" . فدعوت الأخ الأمين الذي كان يخدمني وقلت له: "اصنع محبة واضمني". فضمنني ذلك الرجل واطلقوني بعد ذلك فمضيت إلى قلايتي وقد كدت
أن أموت. ولما دخلت قلايتي أخذت أقول لنفسي: " كد يا مقارة فها قد صارت لك امرأة. الآن يا مقارة قد وجدت لك امرأة وبنون. فينبغي لك أن تعمل ليلاً ونهاراً لقوتك وقوتهم" وهكذا كنت أعمل دائماً قففاً وادفعها إلى ذلك الرجل الذي كان يخدمني فيبيعها ويدفع للمرأة. حتى إذا ولدت تنفق على ولدها. 
 ولما حان وقت ولادة الشقية مكثت أياماً كثيرة وهي معذبة وما استطاعت أن تلد. فقالوا لها: "ما هو هذا؟ .. ما هو ذنبك فها انت بعد قليل تموتين؟" فقالت: "ان كل
ما اصابني كان بسبب أني قد ظلمت المتوحد واتهمته وهو بريء لأنه ما فعل بي شيئاً قط. لكن فلان الشاب هو الذي تحايل عليَّ وفعل بي هذا". 
 فجاء إلى خادمي مسروراً وقال لي: أن تلك البتول ما استطاعت أن تلد حتى اعترفت قائلة: "ان المتوحد لا ذنب له في هذا الأمر مطلقاً. وقد كنت كاذبة في اتهامي له". وها أهل القرية كلهم عازمون على الحضور اليك ويسألونك الصفح والغفران. فلما سمعت انا هذا الكلام من خادمي اسرعت هارباً إلى الاسقيط وهذا هو السبب الذي لأجله جئت إلى جبل النطرون. 
أب الرهبان: 
ويكمل القديس سرابيون شارحاً كيفية مجيء أنبا مقار إلى الإسقيط فيقول : " لما سمع القديس بذلك فكر أن يرحل من ذلك الموضع ويسكن قلاية أخرى ، وبينما هو مزمع أن يفعل ذلك صلَّى كعادته وهو قائم أمام مائدة  الحياة ( مذبح الكنيسة ) فشاهد عن يمينه كاروبيماً نارياً ذا ستة أجنحة مملوءاً كله عيوناً ، ولما أراد القديس أن يتفرس فيه امتلأ خوفاً وسقط على وجهه وصار كالميت ملقى على الأرض ، فتقدم إليه الكاروبيم المقدس وأمسكه وأقامه وقواه وقطع عنه الخوف ، فلما تأيد ( أي أفاق) قال له : لماذا ثقل قلبك ونسبت ما قُلته لك ؟ لقد فعلت حسناً إذ احتملت هذه التجربة التي جاءت عليك حتى تنال الكمال . بادر غداً وارحل من هنا وامض واسكن في الموضع الذي أريه لك بأمر ربنا الذي يريد أن يعمل بك ، وأنا سأجيء إليك وآخذك ليلاً ونسير دون أن يشعر بنا أحد ، فلا تخف لأن هكذا هي مشيئة الرب لا أن تكون أباً لأولاد جسدانين بل أن تلد بنين روحانيين هؤلاء الذين يوصيك أن تجذبهم بالأسرار الخفية والاستعلانات إلى النهاية إن هم حفظوا وصايا الرب ... فلما قام للصلاة بالليل كعادته أبصر نوراً عظيماً في ذلك الموضع ، فعلم القديس أنه الشاروبيم الذي ظل ساعة لا يكلمه لئلا يخاف ، وبعد ذلك قواه وخاطبه قائلا: " قم بقوة الله الذي يقويك سر ورائي كما أريك ." . فترك القديس كل شيء في قلايته وخرج مسروراً والكاروبيم يسير أمامه ، وبعد يومين دخل الجبل ودار به حوله كله ، وأراه المواضع المزمعة أن تكون مسكناً ( للرهبان) هناك . فقال الأب مقاريوس للكاروبيم:" اطلب إليك يا سيدي ، عرفني أين أسكن في هذا الجبل.  فقال له الشيروبيم : " هذه الإرادة هي لك ، ها كل البرية أمامك ، لأني أخشى أن أعطيك وصية أن تسكن هنا أو هناك فيقاتلك الضجر أو الاضطهاد وتخرج من ذلك الموضع وتتجاوز الوصية فتُخطيء . فلتكن سكناك بسلطانك على نفسك . فأينما أردت اسكن وجرب وكن صامتاً واحترس من مقاومة الشرير وحيله ، فإذا ابتُليت منه تكون قد عرفت مسبقاً بذلك . أما أنا فسأكون كل وقت معك . "

  سكناه في الجبل

 قيل عن الانبا مقاريوس انه بنى لنفسه قلاية غربي الملاحات وسكن فيها. وصار يضفر الخوص ويعيش من عمل يديه ويعبد الله كنحو قوته.. فلما سمع به أناس
حضروا إليه وسكنوا معه. فكان لهم أباً مرشداً. ولما سمع بسيرة الأنبا أنطونيوس وبأعماله الفاضلة ذهب إليه فقبله وعزاه وأرشده إلى طريق الرهبنة وألبسه الزي ثم عاد إلى موضعه وكثر الذين يحضرون إليه فكان يلبسهم الزي ويرشدهم إلى طريق العبادة. فلما كبر عددهم بنوا لهم كنيسة هي الآن موضع البراموس. فلما ضاق بهم المكان ولم تعد الكنيسة تسعهم تحول الأب من ذلك المكان وبنى كنيسة أخرى. 

زيارته الأولى للقديس العظيم الأنبا أنطونيوس ( ٣٤٣م )
لما لم يكن إنسان آخر ساكناً في هذا الجبل يتعزى بمعاينته ويكشف له أفكاره التي يسوقها عليه العدو مضى إلى القديس أنطونيوس في الجبل الشرقي وقرع
بابه. فقال ابا انطونيوس: "من الطارق؟" فقال: "أنا مقاريوس أيها الأب" فتركه أبا انطونيوس ودخل ولم يفتح له الباب. لكنه لما رأى صبره فتح له أخيراً وخرج معه وقال له: "منذ زمان وأنا مشتاق أن أراك". وأراحه لأنه كان مجهداً من اثر تعب شديد. 
ولما حان المساء بل الأنبا انطونيوس قليلاً من الخوص لنفسه فقال له القديس مقاريوس: اتسمح أن
ابل لنفسي انا ايضاً قليلاً من الخوص؟ فقال له بل. فأصلح حزمة كبيرة وبلها وجلسا يتكلمان عن خلاص النفس وكانت الضفيرة تنحدر من الطاقة فرأى أبا انطونيوس باكراً أن مقاريوس قد ضفر كثيراً جداً. فقال: "ان قوة كبيرة تخرج من هاتين اليدين".
وفي هذه الزيارة التي تمت سنة سنة ٣٤٣ م كما تدلنا المخطوطات أصبح مقاره تلميذاً للعظيم أنطونيوس فقد ألبسه أنطونيوس الكبير أب الرهبان الزي الرهباني وزوده بكل النصائح اللازمة لهذا الطريق ، ومكث عنده أياماً ورجع بعدها إلى وحدته .
زيارته الثانية للقديس أنطونيوس ( ٣٥٣ م ) 
 في الزيارة الأولى كان القديس مقاريوس يسكن وحده في الأسقيط وذهب للعظيم أنطونيوس يستشيره في تدبير أمور حياته ووحدته لأنه كان وحيداً ومبتدئاً ولكن بعد مرور عشر سنوات ذهب لغرضين أولهما لإزدياد حروب العدو عليه ، ولأخذ نصائح للرعاية وقيادة النفوس التي تكاثرت حوله والغرض الآخر للأستشارة بخصوص بناء كنيسة مستقلة عن نتريا تكون في وسط شيهيت لإقامة الذبيحة أو القداس الإلهي. 
أديرة الإسقيط 
تشير أغلب المخطوطات القبطية وغير القبطية منها إلى أن القديس مقاريوس استقر في المنطقة التي حول دير البراموس الحالي ( وهو دير الأبوين الروميين مكسيموس ودوماديوس) في الحدود الغربية لوادي النطرون ولما إزداد عدد الرهبان والمتوحدين في هذه الأماكن وبلغ الآلاف تحرك من ذلك المكان إلى أعلى بجانب الحدود الشرقية قرب الدير الذي يحمل أسمه الآن . وفي أيام يوحنا كاسيان وجدت أربعة تجمعات في الإسقيط الإثنان السابق ذكرهما والثالث منها في موقع ديري السريان والأنبا بيشوي الحاليين والرابع في موقع دير القديس يحنس القصير الذي يبعد بنحو أربعة كيلو مترات في الإتجاه الجنوبي الشرقي من دير الأنبا بيشوي الحالي .
فضائله

فاعلية صلاته
 انطلق الأب مقاريوس مرة من الاسقيط حاملاً زنابيل ليبيعها في ترنوت على ضفة النهر فأعيي من شدة التعب ووضع الزنابيل على الأرض وصلى قائلاً: يارب. أنت تعلم انه ما بقى فيَّ قوة. وإذا به يجد نفسه على شاطئ النهر. 

تواضعه  
سُئل القديس مقاريوس أي الفضائل أعظم ؟! . فأجاب وقال إذا كان التكبر يعتبر أشد الرزائل كلها حتى انه طرح طائفة من الملائكة من علو السماء ، فبلا شك يكون التواضع أكبر الفضائل كلها لأنه قادر أن يرفع المتمسك به من الأعماق حتى لو كان خاطئاً ، من أجل ذلك أعطى الرب الطوبى للمساكين بالروح .

 + أتى الأب مقاريوس يوماً من الاسقيط إلى نيرس فقال له الشيوخ: قل كلمة للأخوة أيها الأب. فاجابهم قائلاً: انا لم أصر بعد راهباً، لكني رايت رهباناً .. فقد كنت يوماً جالساً في الاسقيط في القلاية وإذا أفكار تأتيني قائلة: اذهب إلى البرية الداخلية وتأمل فيما تراه هناك. ومكثت مقاتلاً لهذا الفكر خمس سنوات ظاناً إنه من الشيطان. لكني لما وجدت الفكر ثابتاً مضيت إلى البرية فصادفت هناك بحيرة ماء وفي وسطها جزيرة بها وحوش برية وقد جاءت إلى الماء لتشرب وشاهدت بينها رجلين مجردين (عاريين) فجزعت منهما لأني ظننت انهما روحان. لكنهما لما رأياني خائفاً جزعاً
خاطباني قائلين: لا تجزع فاننا بشريان مثلك .. فقلت لهما: من انتما؟ .. ومن اين انتما؟ .. وكيف جئتما إلى هذه البرية؟ .. فقالا لي: كنا في كنوبيون ( دير = حياة مشتركة ).. وقد اتفقنا على ترك العالم فخرجنا إلى ها هنا. ولنا منذ مجيئنا إلى هنا أربعون سنة". وقد كان احدهما مصرياً والآخر نوبياً فسألتهما: كيف أصير راهباً فقالا لي: أن لم یزهد الإنسان في كل أمور العالم فلن یستطيع أن یصير راهباً. فقلت لهما: اني ضعيف فما استطيع أن أكون مثلكما. فقالا لي: أن لم تستطع أن تكون مثلنا فاجلس في قلايتك وابك على خطاياك. فسألتهما: اما تبردان أن صار شتاء وإذا صار حر أما يحترق جسداكما؟ .. فأجاباني: أن الله قد دبر لنا ألا نجد في الشتاء برداً ولا يضرنا في زمن الحصاد حر
وأخيراً قال القديس للأخوة: "لذلك قلت لكم اني لم أصر بعد راهباً؟ .. بل رأيت رهباناً .. فاغفروا لي". 

 + قيل انه في إحدى المرات كان أبا مقاريوس عابراً في الطريق حاملاً خوصاً عندما قابله الشيطان وأراد أن يقطعه بمنجل كان ممسكاً به في يده. ولكنه لم يستطع أن يفعل هذا، وقال له: "يا مقاريوس. انك تطرحني على الأرض بقوة عظيمة، وأنا لا استطيع أن أغلبك. ولكن انظر، هوذا كل عمل تعمله أنت، استطيع أنا ايضاً أن أعمله. أنت تصوم، وأنا لا آكل ابداً. أنت تسهر، وأنا لا أنام مطلقاً. ولكن هناك شيئاً واحداً به تغلبني" حينئذ قال له مقاريوس: "وما هو هذا؟" فقال الشيطان: "انه تواضعك. لأنه من أجل هذا لا أقدر عليك". فبسط القديس مقاريوس يديه للصلاة، وحينئذ اختفى الشيطان. 
 + وورد أيضاً انه في مرة ما أمسك الشيطان سكيناً، ووقف على أبا مقاريوس مريداً أن يقطع رجله. ولما لم يقدر أن يفعل هذا من أجل تواضع الشيخ، أجاب وقال له: "كل شيء تملكه، نملكه نحن ايضاً. ولكنك بالتواضع فقط تتفوق علينا، وبه وحده تغلبنا". 

+ انه عندما كان يقترب إليه الأخوة في خوف، كما إلى شيخ عظيم وقديس. لم يكن يجيبهم بكلمة. وعندما كان أخ يقول له في استهزاء: "أيها الآب، لو كنت جملاً، أما كنت تسرق النطرون وتبيعه، وأما كان الجمال 
يضربك؟" فانه كان يرد عليه . وان كان أحد يكلمه بغضب أو بكلمات مثل هذه، فانه كان يجيب على كل سؤال يوجه اليه. 
 
جهاده ضد الشياطين
 
+ نومه في مقبرة متوسداً جمجمة: 
 صعد الأب مقاريوس مرة من الاسقيط إلى البرية فأتى إلى ناووس (جبانة) حيث كانت هناك جثث يونانية قديمة. فأخذ القديس جمجمة ووضعها تحت رأسه. فلما رأى الشياطين جسارته حسدوه وأرادوا أن يزعجوه فنادوا بصوت عال باسم مستعار لامرأة قائلين: يا فلانه قد أخذنا الصابون والأشنان وأدوات الحمام وها نحن في انتظارك لتكوني معنا. فخرج صوت من الجمجمة من تحت رأسه قائلاً: أن عندي ضيفاً وهو رجل غريب متوسد عليَّ فلا يمكنني المجيء. امضوا انتم. أما القديس فانه لم ينزعج ولكنه رفع رأسه عنها وحركها بيده قائلاً: "ها انذا قد قمت عنك فان استطعت الذهاب فانطلقي معهم إلى الظلمة". ثم عاد ووضع رأسه عليها - فلما رأى الشياطين ذلك منه تركوه بخزي عظيم وصرخوا قائلين: امض عنا يا مقاريوس وهربوا. 

+ كشفه أسحلة الشيطان المحتال: 
 جاء عن القديس مقاريوس انه كان في وقت ما سائراً في أقصى البرية. فأبصر شخصاً هرماً حاملاً حملاً ثقيلاً يحيط بسائر جسمه، وكان ذلك الحمل عبارة عن أوعية
كثيرة في كل منها ريشة، وكان لابساً اياها بدلاً من الثياب، فوقف مقابله وجهاً لوجه يتأمله، وكان يتظاهر بالخجل تظاهر اللصوص المحتالين. فقال للبار: ماذا تعمل في هذه البرية تائهاً وهائماً على وجهك فأجابه الأب قائلاً: أنا تائه طالب رحمة السيد المسيح. ولكني أسألك ايها الشيخ باسم الرب أن تعرفني من أنت؟ .. لأني أرى منظرك غريباً عن أهل العالم، كما تعرفني أيضاً ما هي هذه الأوعية المحيطة بك، وما هو هذا الريش أيضاً؟ . وقد كان الثوب الذي عليه مثقباً كله. وفي كل ثقب قارورة - فأقر العدو بغير اختياره وقال: يا مقاريوس، أنا هو الذي يقولون عنه شيطان محتال. أما هذه الأوعية فبواسطتها أجذب الناس إلى الخطية، وأقدم لكل عضو من أعضائهم ما يوافقه من أنواع الخديعة، وبريش الشهوات أكحل من يطيعني ويتبعني وأسر بسقوط الذين أغلبهم، فاذا أردت أن أضل من يقرأ نواميس الله وشرائعه، فما على الا أن أدهنه من الوعاء الذي على رأسي، ومن أراد أن يسهر في الصلوات والتسابيح فاني آخذ من الوعاء الذي على حاجبي والطخ عينيه بالريشة وأجلب عليه نعاساً كثيراً واجذبه إلى النوم. والأوعية الموجودة على مسامعي معدة لعصيان الأوامر وبها اجعل من يسمع إلى لا يذعن لمن
يرشده. والتي عند انفي بها اجتذب الشاب إلى اللذة. أما الأوعية الموضوعة عند فمي فبواسطتها اجتذب النساك إلى الأطعمة، وبها أجذب الرهبان إلى الوقيعة والكلام القبيح، وبذور أعمالي كلها أوزعها على من كان راغباً. ليعطي أثماراً لائقة بي. فأبذر بذور الكبرياء. أما من كان على ذاته متكلاً فاني اجعله يتعالى بالأسلحة التي في عنقي. والتي عند صدري فهي مخازن أفكاري ومنها أسقي القلوب مما يؤدي إلى سكر الفكر وأشتت
وابعد الأفكار الصالحة من أذهان اولئك الذين يريدون أن يذكروا مستقبل حياتهم الأبدية. أما الأوعية الموجودة عند جوفي فهي مملوءة من عدم الحس وبها أجعل الجهال لا يحسون وأحسن لهم المعيشة على مذبح الوحوش والبهائم .. أما التي تحت بطني فمن شأنها أن تسوق إلى فعل سائر أنواع وضروب الزنى والعشق واللذات القبيحة. والتي على يدي فهي معدة لضرب الجسد والقتل. والمعلقة وراء ظهري ومنكبي فهي مملوءة من أنواع المحن المختصة بي وبها أقارع الذين يرومون محاربتي فأنصب خلفهم فخاخاً. وأذل من كان على قوته متكلاً، والتي على قدمي فهي مملوءة عثرات أعرقل بها طرق المستقيمين. ومن شأني أن أخلط في بذر فلاحتي صنوفاً من الحسك والشوك. والذين يحصدون منها يساقون إلى أن ينكروا طريق الحق. وبعد أن قال هذا صار دخاناً واختفى. وان القديس القى بنفسه على الأرض وابتهل إلى الله بدموع لكي يحارب بقوته عن الضعفاء سكان البرية ويحفظهم . 
+ الشياطين تحاول أن تقتله: 
  قيل أن الأب مقاريوس مضى مرة إلى البهلس ( الوادي ) ليقطع خوصاً. فأتاه الشيطان وأخذ منه المنجل وهم أن يضربه به. أما هو فلم يفزع بل قال له: أن كان السيد المسيح قد أعطاك سلطاناً عليَّ فها أنا مستعد لأن تقتلني، فانهزم الشيطان وانصرف عنه هارباً. 

+ شجاعته أمام الشيطان: 
 ويروي بلاديوس ( كاتب بستان الرهبان ) حادثة أخرى مشابهة يقول فيها: 
 وبينما كان أبا مقاريوس ذاهباً من الحصاد إلى قلايته في احدى المرات، وكان حاملاً بعض الخوص لاقاه ابليس ممسكاً بيده منجلاً في الطريق. ولما هم بأن يجرح مقاريوس عاد ابليس فخاف وسقط وقدم خضوعاً للرجل الطوباوي. حينئذ هرب الشيخ من ذاك المكان، وأخبر الأخوة بما جرى. فعندما سمعوا مجدوا الله. 
+ حسد الشياطين للرهبان: 
 أتى للقديس مقاريوس يوماً أحد كهنة الأصنام ساجداً له قائلاً: من أجل محبة المسيح عمدني ورهبني. فتعجب الأب من ذلك وقال له أخبرني كيف جئت إلى المسيح بدون وعظ. فقال له: 
 "كان لنا عيد عظيم. وقد قمنا بكل ما يلزمنا. وما زلنا نصلي إلى منتصف الليل حتى نام الناس. وفجأة رأيت داخل أحد هياكل الأصنام ملكاً عظيماً جالساً وعلى رأسه تاج جليل وحوله أعوانه الكثيرون فأقبل إليه واحد من غلمانه فقال له الملك: من أين جئت؟ فأجاب: من المدينة الفلانية، قال: وأي شيء عملت؟ قال: القيت في قلب امرأة كلمة صغيرة تكلمت بها إلى امرأة أخرى لم تستطع احتمالها فأدى ذلك إلى قيام مشاجرة
كبيرة بين الرجال تسبب عنها قتل كثيرين في يوم واحد. فقال الملك: أبعدوه عني لأنه لم يعمل شيئاً. فقدموا له واحداً آخر فقال له: من أين اقبلت؟ .. قال: من بلاد الهند. قال: وماذا عملت؟ .. أجاب وقال: دخلت داراً فوجدت ناراً قد وقعت من يد صبي فأحرقت النار الدار فوضعت في قلب شخص أن يتهم شخصاً آخر وشهد عليه كثيرون زوراً بأنه هو الذي احرقها. قال في أي وقت فعلت ذلك؟ .. قال: في نصف الليل. فقال الملك: ابعدوه عني خارجاً. ثم قدموا إليه ثالثاً. فقال
له: من اين جئت؟ أجاب وقال: كنت في البحر وأقمت حرباً بين بعض الناس فغرقت سفن وتطورت إلى حرب عظيمة ثم جئت لأخبرك فقال الملك: ابعدوه عني. وقدموا له رابعاً وخامساً وهكذا أمر بأبعادهم جميعاً بعد أن وصف كل منهم أنواع الشرور التي قام بها حتى آخر لحظة. إلى أن اقبل إليه أخيراً واحد منهم فقال له: من اين جئت؟ .. قال: من الاسقيط. قال له: وماذا كنت تعمل هناك؟ قال: لقد كنت أقاتل راهباً واحداً ولي اليوم أربعون سنة وقد صرعته في هذه اللحظة واسقطته في الزنا وجئت لأخبرك. فلما سمع الملك ذلك قام منتصباً وقبله ونزع التاج من على رأسه وألبسه اياه وأجلسه مكانه ووقف بين يديه وقال: "حقاً لقد قمت بعمل عظيم". فلما رأيت أنا كل ذلك، وقد كنت مختبئاً في الهيكل، قلت في نفسي: ما دام الأمر كذلك فلا يوجد شيء أعظم من الرهبنة، وللوقت خرجت وجئت بين يديك. فلما سمع الأب منه هذا الكلام عمده ورهبنه وكان في كل حين يقص على الأخوة أمر هذا الرجل الذي أصبح بعد ذلك راهباً جليلاً.
بل لقد أعطاه الرب أن الشيطان يقر له بغير اختياره عن حروبه ضد الأخوة :
 + كان ابا مقاريوس يسكن وحده في البرية، وكان تحته برية أخرى حيث يسكن كثيرون. وفي أحد الأيام كان الشيخ يرقب الطريق، فرأى الشيطان سائراً فيه على هيئة رجل مسافر وقد أقبل اليه، وكان مرتدياً جلباباً كله ثقوب، وكانت أنواع مختلفة من
  (الفاكهة معلقة فيها ) فقال له الشيخ مقاريوس "الى اين انت ذاهب؟" فأجاب : "انا ماض لأزور الأخوة لأذكرهم بعملهم" فقال له الشيخ: "لأي غرض هذه الفاكهة المعلقة عليك؟" فأجاب: "ان احملها للأخوة كطعام". فسأله الشيخ: "كل هذه؟" فأجاب الشيطان: "نعم. حتى أن لم ترق لأحد الأخوة واحدة أعطيته غيرها، وان لم تعجبه هذه أعطيه تلك. ولابد أن واحدة أو أخرى من هذه ستروقه بالتأكيد". واذ قال الشيطان، سار في طريقه. فظل الشيخ يرقب الطريق حتى اقبل الشيطان راجعاً. فلما رآه قال له: "هل وفقت؟" فأجاب الشيطان: "من أين لي أن احصل على معونة؟!". فسأله الشيخ: "لأي غرض؟" أجابه الشيطان: "الكل قد تركوني وثاروا علي وليس واحد منهم يسمح لنفسه أن يخضع لاغرائي" فسأله الشيخ: "الم يبق لك ولا صديق واحد هناك؟" فقال له الشيطان: "نعم، لي أخ واحد. ولكنه واحد فقط هذا الذي يخضع لي، على الرغم من انه
حينما يراني يحول وجهه عني كما لو كنت خصماً له". فسأله الشيخ: "وما هو اسم هذا الأخ؟" فقال الشيطان: "ثيئوبمبتس Theopemptus "واذ قال هذا رحل وسار في طريقه. حينئذ قام الشيخ ونزل إلى البرية السفلى. فلما سمع الأخوة بمجيئه اقبلوا للقائه
بسعف النخل. وجهز كل راهب مسكنه ظاناً انه قد يأتي اليه. ولكن الشيخ سأل فقط عن الأخ الذي يدعى ثيئوبمبتس واستقبله بفرح. وبينما كان الأخوة يتحدثون مع بعضهم البعض قال له الشيخ: "هل عندك شيء تقوله يا أخي؟ وكيف هي أحوالك؟" فقال له
ثيئو بمبتس: "في الوقت الحاضر الأمور حسنة معي" وذلك لأنه خجل أن يتكلم. فقال له الشيخ: "هوذا أنا قد عشت في نسك شديد مدى سنين طويلة، وصرت
مكرماً من كل أحد. وعلى الرغم من هذا، ومع انني رجل شيخ، الا أن شيطان الزنا يتعبني" فأجابه ثيئوبمبتس "صدقني يا أبي، انه يتعبني أنا ايضاً". واستمر الشيخ يوجد سبباً للكلام - كما لو كان متعباً من أفكار كثيرة - إلى أن قاد الأخ أخيراً إلى أن يعترف بالأمر. وبعد ذلك قال: "الى متى تصوم؟" فأجاب الأخ: "الى الساعة التاسعة" فقال له الشيخ: "صم حتى العشاء واستمر على ذلك. اتل فصولاً من الأناجيل ومن الأسفار
الأخرى. وإذا صعدت فكرة إلى ذهنك، لا تجعل عقلك ينزل إلى أسفل، بل فليكن فوق دائماً. والرب يعينك". وهكذا اذ جعل الأخ يكشف أفكاره، واذ شجعه، عاد ثانية إلى بريته. وسار في سبيله وكان يرقب الطريق كعادته. ورأى الشيطان ثانية، فقال له: "الى اين أنت ذاهب؟" فأجاب وقال له: "أنا ذاهب لأذكر الأخوة بعملهم". ولما رحل ورجع ثانية، قال له القديس: "كيف حال الأخوة؟" فأجاب الشيطان: "انهم في حالة رديئة" فساله الشيخ كيف؟ فأجاب الشيطان "كلهم مثل حيوانات متوحشة. كلهم متمردون. وأسوأ ما في الأمر انه حتى الأخ الواحد الذي كان مطيعاً لي قد انقلب هو الآخر، لأي سبب لست أعلم، ولم يعد يخضع لاغرائي
بأي حال. وصار أكثرهم نفوراً مني. ولذلك قد أقسمت اني لن أذهب إلى ذلك المكان، الا بعد مدة طويلة على الأقل"
 
 يوجد من يضاهيه 

 + طلب أبونا القديس أن يعرفه الرب من يضاهيه ( يساويه ) في سيرته، فجاءه صوت من السماء قائلاً: "تضاهي امرأتين هما في المدينة الفلانية" . فلما سمع هذا تناول عصاه الجريد ومضى إلى المدينة. فلما تقصى عنهما وصادف منزلهما، قرع الباب فخرجت واحدة وفتحت له الباب. فلما نظرت الشيخ ألقت ذاتها على الأرض ساجدة له دون أن تعلم من هو - اذ أن المرأتين كانتا تراين زوجيهما يحبان الغرباء - ولما عرفت الأخرى، وضعت ابنها على الأرض وجاءت فسجدت له، وقدمت له ماء ليغسل رجليه كما قدمت له مائدة ليأكل. فأجاب القديس قائلاً لهما: "ما أدعكما تغسلان لي رجلي بماء، ولا آكل لكما خبزاً، الا بعد أن تكشفا لي تدبيركما مع الله كيف هو، لأني مرسل من الله اليكما". فقالتا له: "من أنت يا أبانا؟" فقال لهما: "أنا مقاره الساكن في برية الاسقيط". فلما سمعتا ارتعدتا وسقطتا على وجهيهما أمامه باكيتين. فانهضهما، فقالتا له: "اي عمل تطلب منا نحن الخاطئتين ايها القديس؟!".  فقال لهما: "من أجل الله تعبت وجئت اليكما، فلا تكتما عني منفعة نفسي".  فأجابتا قائلتين: 
"نحن في الجنس غريبتان احدانا عن الأخرى ، ولكننا تزوجنا أخوين حسب الجسد وقد طلبنا منهما أن نمضي ونسكن في بيت الراهبات ونخدم الله بالصلاة والصوم، فلم يسمحا لنا بهذا الأمر. فجعلنا لأنفسنا حداً أن تسلك أحدانا مع الأخرى بكمال المحبة الالهية. وها نحن حافظتان نفسينا بصوم دائم إلى المساء وصلاة لا تنقطع. وقد ولدت كل واحدة منا ولداً. فمتى نظرت احدانا ابن اختها يبكي، تأخذه وترضعه كانه ابنها. هكذا تعمل كلتانا. ورجلانا راعيا ماعز وغنم، يأتيان من المساء إلى المساء الينا كل يوم فنقبلهما مثل يعقوب ويوحنا بني زبدي، كأخوين قديسين. ونحن مسكينتان بائستان، وهما دائبان على الصدقة الدائمة ورحمة الغرباء. ولم نسمح لأنفسنا أن تخرج من فم الواحدة منا كلمة عالمية البتة، بل خطابنا وفعلنا مثل قاطني جبال البرية. 
 فلما سمع هذا منهما، خرج من عندهما، وهو يقرع صدره ويلطم وجهه، قائلاً: 
"ويلي ويلي، ولا مثل هاتين العالميتين لي محبة لقريبي" وانتفع منهما كثيراً. 

القديس مكاريوس صانع المعجزات
 
  + مرة نزل الأب مقاريوس الاسقيطي إلى الحصاد وبصحبته سبعة اخوة. وكانت امرأة تلتقط خلف الحصادين وهي لا تكف عن البكاء فاستفهم الأب من رئيس الحصادين عن أمر هذه العجوز وعن سبب بكائها دائماً .. فأجابه: أن رجلها عنده وديعة لانسان مقتدر. وقد مات فجأة ولا تعلم هذه المرأة موضع هذه الوديعة فلما استراح الحصادون من الحر دعا الشيخ المرأة وقال لها: هلمي أريني قبر زوجك. فلما وصل إليه صلى مع الأخوة. ثم نادى الميت قائلاً: يا فلان اين تركت الوديعة التي عندك؟ فاجابه: انها في بيتي تحت رجل السرير فقال له القديس: نم ايضاً. فلما عاين الأخوة ذلك تعجبوا. فقال لهم القديس
 "ليس من أجلي كان هذا الأمر لأني لست شيئاً. بل انما صنع الله هذا من أجل الأرملة واليتامى" ولما سمعت المرأة بموضع الوديعة انطلقت واخذتها واعطتها لصاحبها. وكل الذين سمعوا هذا سبحوا االله.
 

+ كان سائراً مرة في البرية الداخلية فوجد جمجمة انسان ملقاة فوقف عندها، ثم حركها بعصاه وبدأ يبكي ورفع عينيه إلى السماء في تضرع بلجاجة شديدة طالباً من السيد المسيح أن يعلمه بقصة صاحب هذه الجمجمة . ثم حركها ثانية وخاطبها: أسألك باسم المسيح أن تتكلمي. فخرج صوت من الجمجمة قائلاً: ماذا تريد مني يا مقاريوس البار؟! فقال لها: أريد أن أعرف تاريخ صاحبك. فقالت له الجمجمة: اعلمك بأني كنت رأساً لملك هذه الأماكن؟!. وكانت هنا بلاد ومدن كثيرة. فتعجب القديس وسألها: ماذا كان اعتقادكم؟ فقالت: كنا نعبد الأصنام وندعوها آلهة ونعمل لها أعياداً وحفلات لا يقدر أحد أن يصنع مثلها وكانت المملكة
عظيمة جداً وها أنا اليوم كما ترى يا أبانا القديس. 
 ولما سمع ذلك انبا مقاريوس بكى بكاء عظيماً. ثم سأل: وما هي حالكم اليوم؟ .. فقالت: نحن في عذاب شديد لأننا لم نعرف الله ولكنه عذاب أخف وطأة من الذين عرفوا الله وآمنوا به ثم جحدوه. فتألم القديس كثيراً ثم تركها ومضى عائداً إلى قلايته .

عدم إدانته للآخرين 

 قيل عن القديس مقاريوس أنه كان في بعض القلالي أخ صدر منه أمر شنيع وسمع به الأب مقاريوس، ولم يرد أن يبكته .. فلما علم الأخوة بذلك لم يستطيعوا
صبراً، فما زالوا يراقبون الأخ إلى أن دخلت المرأة عنده، فاوقفوا بعض الأخوة لمراقبته، وجاءوا إلى القديس مقاريوس. فلما أعلموه قال: "يا اخوة لا تصدقوا هذا
الأمر، وحاشا لأخينا المبارك من ذلك" فقالوا: "يا ابانا، اسمح وتعال لتبصر بعينيك حتى يمكنك أن تصدق كلامنا". فقام القديس وجاء معهم إلى قلاية ذلك الأخ كما لو كان قادماً ليسلم عليه وأمر الأخوة أن يبتعدوا عنه قليلاً. فما أن علم الأخ بقدوم الأب حتى تحير في نفسه، واخذته الرعدة وأخذ المرأة ووضعها تحت ماجور كبير عنده، فلما دخل الأب جلس على الماجور، وأمر الأخوة بالدخول، فلما دخلوا وفتشوا القلاية لم
يجدوا أحداً ولم يمكنهم أن يوقفوا القديس من على الماجور، ثم تحدثوا مع الأخ وأمرهم بالانصراف. فلما خرجوا امسك القديس بيد الأخ وقال: "يا أخي، على نفسك احكم قبل أن يحكموا عليك، لأن الحكم الله". ثم ودعه وتركه، وفيما هو خارج، اذ بصوت أتاه قائلاً: 
"طوباك يا مقاريوس الروحاني، يا من تشبهت بخالقك، تستر العيوب مثله". ثم أن الأخ رجع إلى نفسه وصار راهباً حكيماً مجاهداً وبطلاً شجاعاً.

نفيه على يد فالنس الأريوسي

في سنة ٣٧٥ أمر فالنس قيصر الأريوسي بطرد جميع رؤساء الأديرة الذين حفظوا الإيمان الأرثوذكسي القويم فنفذ لوسيوس هذا الأمر بأن نفى القديس مكار يوس وسميه القديس مكاريوس الأسكندرى وكثيرين من الرهبان إلى جزيرة فيلة فى الصعيد الأعلى وكانت
هذه الجزيرة لا تزال وثنية وفيها هيكل للاصنام مشهور وكان كاهن هذا الهيكل محترماً من السكان حتى كادوا يؤلهونه فلما وصل هذان القديسان ومن معهما من الرهبان الى تلك الجزيرة كانت ابنة ذلك الكاهن الوثني  مصابة بروح نجس فانطلقت الى الشاطىء الذى رسى فيه القديسان وصاحت قائلة " لمَ أتيتم يا عبيد الله الى هذا المكان الذى استوطناه من زمن بعيد ؟!
أطمعتم في الاستيلاء على هذه الجزيرة بعدما أستوليتم على القطر كله ؟! ، ها نحن نتركها لكم إذ لا قوة لنا على مقاومتكم " ولما صلى النساك على الفتاة فارقها ذلك الروح الشرير فبرئت وللحال اعتمد معظم أهالى تلك الجز يرة الوثنية ولما سمع الشعب الاسكندرية بهذا الخبر طالبوا لوسيوس بشدة بارجاع هذين البارين فاصدر أمرا خصوصيا بالرغم عنه باعاده هذين الرئيسين ومن معهما حوالى سنة ٣٧٦ م
وما أن رجع القديس مقاريوس الى بريته حتى أستأنف أعماله التقو ية فظل يعلم المتوحدين ويرشدهم الى أن رقد بالرب فى ٢٧ برمهات سنة ١٠٨ ش بالغاً من العمر ٩٠ سنة تاركا برية الأسقيط تحاكى السماء موطن الملائكة ومقر التسبيح والتمجيد وقد نما عدد رهبانه الى ٢٤٠٠
راهب وكانت لهم مكانة كبرى ومنزلة عليا لما اشتهروا به من الحكمة ووفرة العلم .

نياحته 

تقدم القديس الأنبا مقاريوس في الأيام وشاخ جداً حتى بلغ التسعين من عمره ، وما كف عن صراع الشياطين وكان متيقظاً في قلبه بالنعمة التي منحها له الرب منذ صباه إلى شيخوخته ولم تفارقه ، إلا أن ضوء بصره قد نقص من كثرة السهر والتعب وطول السنين حتى بدأ يرقد على الأرض من كثرة ضعفه وكان تلاميذه يحيطون به ، وكان يعزي كل واحد على قدر إحتياجه ويقول " الله يعلم أنني ما كتمت عنكم شيئاً بل خاطبتكم دائما بما أعلم أنه ينفع أنفسكم وعملت بينكم على قدر قوتي وكلفت نفسي دائما حتى لا أصير سبباً لإسترخاء أحد منكم لا صغير ولا كبير ولا نمت قط ليلة واحدة وفي قلبي غضب على أحد منكم ولا تعديت أعمال الله ولا تجاوزتها ولا نقصت محبتي لله ولا لإخوتي المعروفين لله ولكل الخليقة . الرب يعلم ويشهد عليّ ، فاهتموا يا إخوتي بخلاص أنفسكم وتيقظوا لأني بعد قليل سأؤخذ منكم " .
وبعد الكلام معهم صرفهم ، وفي نحو الساعة السابعة ظهر شخصان قديسان مضيئان وعليهما مجد وجلال إلهيين وكل منهما يبتسم إلى الآخر وتكلم واحد منهما معه قائلاً " أما تعرف هذا الآخر ؟! " أما هو فسكت كعادته لأنه ما كان يجاوب أحد بسرعة بل يتمهل ثم يجاوب فقال له " أنه الأب باخوم ، وقد أرسلنا الرب إليك لندعوك . فأهتم الآن بما تريده فإنك بعد تسعة أيام ستخلع عنك هذا الجسد وتأتي لتسكن معنا " . ثم غابا عنه .
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر برمهات ظهر له الكاروبيم الذي كان معه منذ الابتداء ومعه جمع كثير من الروحانيين وقال له أسرع وتعال فإن هؤلاء كلهم ينتظرونك ، فصاح أنبا مقاره بصوت خافت قائلاً " يا سيدي يسوع المسيح حبيب نفسي اقبل روحي إليك " . وإنضم القديس مقاريوس إلى سحابة القديسين التي تشفع لنا في السماء .
وقال الأنبا سيرابيون الذي كتب سيرة الأنبا مقار: " أن الوقت الذي سلم القديس روحه فيه إلى الله كنا مجتمعين عنده ، وكان قوم من الشيوخ القديسين حاضرين ، فأبصروا نفس القديس وهي خارجة من جسده وهي أبهى من الشمس وقد سُلمت في يد الشيروبيم الذي نزل من السماء ومعه القوات العلوية التي لا يستطيع أحد أن يصف مجدها وبهاءها ، ولما رأى الشياطين نفسه هكذا صاحوا قائلين " خلُصت وانفلت من أيدينا يا مقاره ! " فأجابهم : ما أخلُص بعد .
ولما وصل إلى الجو صاح الشيطان " خلُصت يا مقاره !" . فقال : ما خلُصت بعد.  ولما جعل إحدى رجليه داخل باب السماء صاحت الشياطين بأصوات عالية " قد دخلت يا مقاره ! " . فأجابهم : ليس بعد . ولما جعل رجليه الإثنتين داخل الباب صاحوا أيضاً قائلين وهم باكون " وصلت يا مقاره " . فصاح القديس بصوت عالٍ حتى أن السماء والأرض ارتعدتا من صوته قائلاً: قد قبلت نعمة ربنا يسوع المسيح ، وأنا شاكر لإلهي الحقيقي الذي خلصني من أيديكم ومن فخاخكم التي لا عدد لها وأهلني برحمته لنعمته السمائية بكثرة محبته للبشر ... ثم أحاط به الشيروبيم وحجبه عنهم ، وهكذا دخل المنازل المجيدة التي لربنا يسوع المسيح الذي أحبه من كل قلبه .
ولهذا القديس مولفات جليلة رد بها على مولفات الوثنيين ضد الديانة المسيحية لم يعثر العالم
المسيحى منها أو بالحرى لم يصل ليده من تلك العصور المتقدمة الا كتاب عظاته المحتوى على خمسين
عظة وكتب في المبدأ باللغتين القبطية  لفائدة رهبانه وأمته وباليونانية لفائدة  أهل هذه اللغة الذين كانوا منتشرين بمصر ومع أن أكثر مؤلفات آباء الكنيسة اغتالتها يد الضياع الا أن نسخة عظات هذا القديس ظلت محفوظة حتى وقف عليها الإنجليز وطبعوها بلغتهم ثم ترجموها الى العربية .
وللقديس بخلاف المواعظ بعض أقوال أخرى روحيه منثوره فى كتاب بستان الرهبان وله سبع
رسائل لاهوتية طبعت بالفرنسية في مدينة طولوز بفرنسا سنة ١٦٨٤ م

أشهر تلاميذه ومعاصريه
من الشخصيات الشهيرة التي تتلمذت على يد الأنبا مقار وعاصرته القديسين العظيمين  القديسين الروميين مكسيموس ودوماديوس  وأنبا يؤانس القصير وأنبا بيشوي والأنبا إيسيذوروس القس كاهن شيهيت والأنبا بفنوتيوس الذي خلف الأنبا مقار على رئاسة الأسقيط والأنبا بيمين والأنبا موسى الأسود ( سيرة القوي الأنبا موسى الأسود )
 والأنبا إشعياء الإسقيطي والأنبا سلوانس والأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك والقديس الأنبا بموا الأب الروحي للقديس أنبا بيشوي والأنبا أغاثون والقديس مكاريوس السكندري وغيرهم الكثيرين كما انه التقى بكل من القديس الأنبا أنطونيوس وتتلمذ له وذهب زائرا للقديس باخوميوس  





إرسال تعليق

0 تعليقات