Ad Code

سيرة القوي الشهيد الأنبا موسى الأسود

الأنبا موسى الأسود 

إن سيرة الأنبا موسى الأسود قاطع الطريق التائب تقدم مثلاً حياً لمراحم الله اللانهائية ، وللصلاح الأبوي الدائم ، وللأمل المتجدد للخطاة في كل زمان ومكان ..
لا أحد يعرف على وجه التحديد أين ولد ! ..أو ما هي عشيرته ! .. والقليل الذي تحدثنا به الكتب لا يشفي الغليل . البعض يرى أنه ولد سنة ٣٣٠ م بإحدى مقاطعات الحبشة ، مستندين في ذلك الى لقبه " الأسود " والى تعبيرات لباليديوس ، كاتب سير الرهبان ... بينما يرى البعض الآخر أنه لم يكن حبشياً بل كان " نوبياً" ، أي مصرياً من أقصى الجنوب ، وكانت كلمة الأسود أو " الحبشي " تطلق على كل من أسود البشرة مهما كانت جنسيته ..
وقد ورد في كتاب بستان الرهبان اعداد الأنبا ابيفانيوس اسقف ورئيس دير الأنبا مقار ما يلي :
١٧٩ - ومرة اخرى انعقد مجمع وأرادوا أن يمتحنوا الأنبا موسى ، فنهروه قائلين : " لماذا يأتي هذا النوبي هكذا ويجلس في وسطنا ؟" فلما سمع هذا الكلام سكت . وعند انصراف المجلس قالوا له : " يا ابانا لماذا لم تضطرب ؟ " فأجابهم قائلاً : " الحق إني اضطربت ، ولكني لم اتكلم شيئاً " . ( س٥ : ٥٧ ج ) ( Abc. Moses 3 )  ويمكن لمن يريد الرجوع للشاهد .
أياً كان الأمر ، فالثابت أنه كان عبداً لرجل شريف مقدم لاحدى البلاد .
من أقوال الأنبا موسى الأسود 

كان موسى يتمتع بقوى جسدية خارقة وطول فارع يجعله أشبه بالمارد ، وكان يتسم بالقسوة ، لا يبالي بقانون أو ناموس ، لا يعرف أخلاقاً او نبلاً ، يشرب الإثم كالماء ، ويصنع الشر حباً في الشر ، وأثناء عمله كعبد كان كثير السرقة ، قبيح التصرف ، ولم يجد الشريف من وسيلة لعلاجه فطرده خارجاً . 
وما أن وجد موسى نفسه في عرض الطريق ، حتى جمع حوله نفراً من اللصوص تولى قيادتهم وزعامتهم ، وعاث في الأرض فساداً وسلباً ونهباً ، فبلغ صيته الآفاق وصار أسمه يثير الرعب في النفوس . وفي إحدى غزواته ، نبحت كلاب راعٍ وراءه ، فاغتاظ في نفسه وأضمر له الشر ، فلما سمع مرة أن الراعي يرعى على الشاطيء الآخر من النيل ، أسرع فخلع ملابسه ، ووضع سيفه بين فكيه وعبر مياه النيل بسرعة خارقة ، فلما رآه الراعي على هذه الحالة فزع جداً وولى هارباً ، وأختفى بين الحقول . وإذ لم يستطع موسى أن يفتك بالراعي قام فاختار أربعة من أجود الخراف وذبحها ثم ربطها بحبل وقفل راجعاً إلى الشاطيء الآخر ، وهو يسبح جاراً إياها وراؤه ، ولما بلغ الشاطيء سلخها وأكل ما أستطاب من لحمها ثم باع جلودها وأشترى بثمنها نبيذاً ( أي خمر) ، وعاد إلى رفقاؤه اللصوص .
هكذا كان يحيا موسى ، معتمداً على قوة ذراعه . ولكن العناية الإلهية كانت تلاحقه في حب وصبر وبدأت النعمة الإلهية تعمل في قلبه بقوة .
أما كيفية توبته فلم يتفق عليها المؤرخون ، فقد ذكر كاسيان أنه لما جد الناس في أثره لكثرة الجرائم التي ارتكبها لجأ إلى أحد المناسك محاولاً الإختباء ،وهنا كما يقول شينو ، تقابل ولا شك مع بعض الرهبان الذين حدثوه عن الدينونة الرهيبة مما دفعه للتوبة ، ويرى آخرون ان عمل النعمة أشرق في قلبه عندما سمع البعض يتكلمون عما هو معد للأخيار والأشرار بعد هذه الحياة الدنيا والعقوبات الهائلة التي أعدها الله لمن عاشوا وماتوا ، وهم يتمرغون في وحل الإثم ، ثم المجد العظيم الذي أعده للأبرار الذين أتقوه ، فأثر هذا الكلام في قلبه تأثيراً دفعه الى الإلتجاء الى احد الاديرة تائباً ونادماً على خطاياه .

أما المخطوطة التي تحدثنا عن سيرة هذا القوي فتذكر أنه لما كان يناجي الشمس ذات مرة قائلاً : " أيتها الشمس ، ان كنت انت الإله ، فعرفيني " ، " وأنت أيها الإله ، الذي لا أعرفك ، عرفني ذاتك " سمعه أحد المزارعين الذين كانوا بالقرب منه ، فأرشده إلى رهبان برية شيهيت قائلاً له " أنهم يعرفونك بالإله الحقيقي " ، ومن المؤكد أن موسى في فترة هيامه في القفار كان يصادف رجالاً أتقياء ولابد أن يكونوا قد حدثوه ولو مرة واحدة ، وكلمة الله " لا ترجع فارغة " ( اش ٥٥ : ١١ ) ، وبحكم العادة استل موسى سيفه ، وقام لتوه متجهاً إلى برية شيهيت ، باحثاً عن الآب ايسيذوروس قس القلالي ، وكأن لسان حاله يقول " علمني يا رب طريقك ، وأهدني في سبيل مستقيم " ( مز ٢٧ : ١١) .
الأنبا موسى الأسود والأنبا ايسيذوروس 

وما أن رآه الآباء من بعيد حتى سرى الخوف في قلوبهم ، فقد كان موسى " رعب المنطقة " .
وإذ كان الأنبا  ايسيذوروس القس خارجاً من قلايته ، صادفه الأنبا موسى ، فبادره قائلاً : 
- " اين الأنبا ايسيذوروس ؟ " . فقال له 
- " وماذا تريد منه ؟ " . اجاب موسى .
- " أريد ان أعرف الله " . فقال له الأنبا ايسيذوروس 
- " ومن أرسلك " .  فقال 
- " سمعت عنه من أخ كان يحصد في الحقل ، كنت قد جلست إليه وهو الذي أرشدني أن أجيء الى هنا ، لهذا أتيت لكي أخلص " . 
وتعجب الشيخ كثيراً وأراد أن يستزيد معرفة عما أتى " برعب المنطقة " الى ديارات الرهبان فسأله .
- " وكيف أرشدك الله هكذا " ؟ فأجابه موسى : 
- " ما كنت أعرف الله ، بل كنت في الحقل جالساً وتطلعت الى الشمس فرأيتها تشرق في الشرق ، وتغيب في الغرب . وهكذا القمر يكمل في وقت ، وينقص في وقت . والنجوم تظهر في وقت الليل وتغيب وتختفي في النهار ، ومطر وسحاب في الشتاء ، وقيظ وحرارة في الصيف ، والارض تعطي ثمرها في حينه ، وفهمت من هذا كله ، أن هذه الأشياء ثابتة في طقسها ، وأدركت أنه لا بد أن يكون لها مدبر وقائد حكيم . وهكذا قمت وتركت كل شيء ورفضته وقلت في نفسي أن الذي يهدي الخليقة كلها ، قادر أن يهديني أنا أيضاً" فقال له أنبا ايسيذوروس .
- " هل اعتمدت ؟ " . أجابه موسى 
- " وما هي المعمودية ؟ " . فسأله أنبا ايسيذوروس 
- " ما هي أمانتك ( اي إيمانك ) اذن ؟ " فقال موسى 
- " كنت اعبد النار ، ولما باعوني صرت عبدا وكان سيدي صابئاً يعبد الكواكب ، أما أنا فلا اعبد أحداً 
ولما تحقق الأنبا ايسيذوروس من صدق نيته ، واشتياقه للتوبة ، وادرك أن النار الإلهية قد اضطرمت في قلبه ، أخذ يعظه ويلقنه الأمانة ( الإيمان ) ، ثم عمده وألبسه الإسكيم الرهباني وأسكنه في البرية ، قائلاً له " متى رجعت الى العالم فأن الشرور التي فعلتها كلها ترجع اليك مرة أخرى . ولكن أن بقيت في هذا المكان ، فأنا أؤمن ان الله سيصنع معك رحمة ، فأن قبلت وصيتي ، فامض وكن نشيطا وأبقى في البرية الى يوم وفاتك " واسكنه مع الأخوة اولا ، ثم لما اشتدت عليه الحرب ، مضى الى البرية الداخلية .
من أقوال الأنبا موسى الأسود 

بداية نشيطة 
هكذا وضع موسى الأسود خطاياه أمامه في كل حين ، وأخذ ينوح عليها ، معترفاً بها جهراً بدموع غزيرة ، وفي اتضاع حقيقي ، وندم حار يجتاح كل نفسه ، وكان يركع أمام الأنبا ايسيذوروس معترفاً بكل عيوبه وجرائم حياته الماضية . 
وفي احدى مرات أعترافاته العلنية ، أمام مجمع الآباء وفي حضور القديس مقاريوس الكبير ، كان القديس مقاره يرى ملاكاً يمسك لوحاً عليه كتابة سوداء وكلما أعترف موسى بخطية قديمة ، مسحها له ملاك الله ، حتى انتهى موسى من الاعتراف ، فإذا باللوح كله ، وقد صار ابيضاً .
إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ. (1 يو9:1).
 هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ. ( إش18:1)
يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ. ( إر34:31 )
ما أن نال موسى الصبغة المقدسة ، حتى بدأ حياة نسكية على درجة عالية ، حتى أنه في زمن يسير برع في السيرة الرهبانية كما لو كان ممن مارسوها منذ عهد طويل ... ويقدر البعض عمره حينذاك فيما بين الخامسة والعشرين والثلاثين .
وتذكر لنا سيرته أنه لما بدأ الشيطان يقاتله بما كان فيه أولا من محبة الأكل والشرب وغير ذلك ، وبالأخص أفكار الزنا ، بدأ يجاهد في عبادات كثيرة وتداريب روحية ، في حياته الماضية حيث كان يعيش في الخطيئة والإثم كان معتاداً يومياً على أكل خروف كامل وشرب زقين من الخمر ، فحين أتى للرهبنة لم يسمح له الأنبا ايسيذوروس بأن يصوم صوم الرهبان بل أمره بقطع جزع شجرة ويأكل وزنه خبزاً يومياً ويوم بعد يوم يجف جزع الشجرة ويقل مقدار أكله ومن رحمة أبيه ومرشده لم ينزله إلى درجة الحرمان مرة واحدة حتى لا يضار جسدياً أو روحياً ، حتى جاء الوقت الذي كان يصوم فيه الأنبا موسى إنقطاعي ، وبدأ يزيد فترات الإنقطاع حتى وصل إلى أنه كان يصوم أسبوع بأكمله وأحياناً أسبوعين ، وبهذا كان مثلاً في التدريج في حياة البر والقداسة .
وظل ستة سنوات ، لا يعطي راحة لجسده ، مداوماً على الصلاة ليل نهار ، مصلياً كل يوم المزامير ، ولا يأكل سوى قليل من الخبز في كل يوم عند غروب الشمس . وتعلم ضفر الخوص وأخذ يجهد نفسه ، تساعده في ذلك قواه العضلية والجسدية ، حتى أنه كان يضفر في اليوم الواحد ثلاثين باعاً ( وكان اقوى الرجال ، في ذلك الوقت ، لا يستطيع ان يضفر اكثر من ١٥ باعاً ) حتى ضعف جسده وهزل وصار كخشبة محروقة .
من أقوال الأنبا موسى الأسود 

الشيطان يتجرد لمحاربته
بينما كان القديس موسى مداوماً على الصوم والصلاة والتأمل ، منفرداً في قلايته ، مثابراً على الجهاد الروحي ، ممارساً أنواع كثيرة من اماتات الجسد في انسحاق وندم ... لم يحتمل الشيطان أعمال القديس هذه ، فبدأ يقاومه بكل شدة وشراسة .كان موسى في ممارساته النسكية يستعين بقوته الجسدية بوضوح ، إذ كانت هذه القوة تساعده على أنواع كثيرة من النسك المفرط . فابتدأ عدو الخير يعيد إلى ذاكرته كل صور الإثم ، والعادات المرذولة القديمة ، ويزينها له ، ولا سيما شهواته القديمة . اشتدت عليه ضغطة الشيطان ، وفكر الزنا ، حتى أنه كاد أن يترك الحياة النسكية ويرجع إلى العالم ، كما أعترف هو بنفسه بذلك ، حينما رأى ذاته على هذه الحال . ومن ثم أسرع إلى القديس ايسيذوروس وكشف له الأمر ، فقال له أنبا ايسيذوروس " لا تحزن هكذا ، وانت مازلت في بداية الصعوبات ، ولمدة طويلة سوف تأتي رياح التجارب ، وتقلق روحك ، فلا تخف ولا تجزع ، وانت اذا ثابرت على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر فسوف تنتصر على شهوات الجسد . واستفاد موسى من هذا الكلام ، ورجع الى قلايته ، ممارساً نسكياته ، مجاهداً بأنواع اماتات كثيرة وأصوام أكثر ، حتى أنه بدأ يأكل مرة واحدة عند غروب الشمس كل يوم قليلاً من الخبز المبلول . لكن وقت نجاته من التجربة لم يكن قد اتى بعد ، فقد ظلت الغرائز الكامنة في جسده متمردة عليه ، ولاسيما في أوقات النوم . وعاد الى معلمه ايسيذوروس يلتمس الارشاد فعرفه أن الجسد والعادات الرديئة يثيران عليه الحروب الهائلة ، تماماً مثل كلب القصاب ( الجزار) ، كلما وجد عظما يأكله فلا يمكن ابعاده وطرده ، ولكن متى أقفل الباب في وجهه ، ولم يجد ما يأكله ، ابتعد من تلقاء نفسه . وهكذا يتصرف الشيطان مع الخطاة الذين يتركون العالم ويتجردون للحياة النسكية ، فأنه لا يبرح قلاليهم ، كلما وجد الفرصة لذلك ولكنه متى جاء ووجد الباب مغلقاً ولى الأدبار . فهكذا ينبغي لنا اقتلاع العادات السيئة من أصولها وغرس عادات حميدة عوضاً عنها . كالصوم والتوبة حتى ينزعا من الجسد آية منافذ يدخل منها عدو الخير .
وهكذا ازداد موسى تقشفاً وانفراداً في صلاة وأصوام كثيرة . ومع كل ذلك لم يستطيع موسى أن يلاشي من مخيلته تلك الأشباح الدنسة بل كانت تزداد في محاربته ، كلما أزداد هو في نسكه .فمضى إلى البرية الداخلية حيث حفر له مغارة في الأرض على عمق أربعين ذراعاً بالقرب من الماء . وكان يحب خدمة الآخرين، فإذا نام شيوخ الدير كان يمر على قلاليهم ويأخذ جرارهم ويملأها ماءً من بئر بعيد عن الدير. وعندما رأى عدو الخير صبر موسى ومثابرته على الجهاد ، وأصراره على حياة العفة والطهارة ، ووضوح الهدف أمامه ، وقوة الرجاء ، اغتاظ منه جداً وانتهز فرصة خروج موسى ليلاً ، ليملأ الجرار للرهبان سراً كعادته ، وضربه ضربة مؤلمة جداً ألقته طريحاً بين حي وميت ، وبقي على هذا الحال الى اليوم التالي ، حتى جاء بعض الرهبان ليستقوا الماء ، فحملوه وأتوا به الى الكنيسة ، وظل هكذا ثلاثة أيام حتى شفي . ولما أعلمه الأنبا ايسيذوروس أن هذا حسد الشيطان ، زادت كراهيته للشر وعدو الخير .
عندما شفي موسى من هذه الضربه قام منها بقُرح في رجله أقعده مريضاً، ولم يستطع أن يقف على قدميه ، فقال له الأنبا ايسيذوروس " يا ولدي كف عن محاربة الشياطين ( يقصد أن لا يعتمد موسى على ذاته في حروب الشياطين ) ، لأن الإنسان له حد في قوته ، ولكن ما لم يرحمك الله ويعطيك الغلبة عليهم ، هو وحده ، فلن تقدر عليهم ابدا .
أمضي الآن وسلم أمرك لله وانسحق أمامه وداوم على الإتضاع وأنسحاق النفس . فإذا نظر الله إلى صبرك واتضاعك فانه يرحمك . 
أجاب موسى وقال : " أني أثق في الله الذي وضعت فيه كل رجائي ، أن أكون دائماً متسلحاً ضد الشياطين ولا أبطل الجهاد ضدهم حتى يرحلوا عني . وظل موسى موسى يجاهد بحرارة ضد عاداته الرديئة ، وحروب الجسد مدة طويلة ، وفي احدى المرات ذهب القديس موسى الى أحد الشيوخ وقال له :" ماذا أفعل يا أبي فإن الخيالات والاحلام والأغاني الرديئة تزعج روحي رغماً عني والميول الردية تحاول أن تلذذ نفسي " .. فأجابه الشيخ :" عود نفسك السهر ، وصلي بانتباه واصغاء ، فترى أن التجربة تزول . وأوضح له أن سبب هذه الحروب هو أنه لا يصرف أفكاره عن هذه التصورات " . عندئذ عاد موسى الى قلايته وهو عازم أن يعمل بهذه النصيحة .
وعندما عاودته الحرب ، ذهب الى معلمه ايسيذوروس ، الذي أخذه وصعد به الى سطح الكنيسة ، وقال له أنظر الى الغرب ماذا ترى ؟ 
فأجابه :" أرى شياطيناً كثيرين سود ، وهم قلقين يصيحون مثل المجانين ويتحفزون للحرب والقتال " . ثم أخذه نحو الشرق وقال له انظر ماذا ترى ؟ . فقال له :" ملائكة كثيرين يمجدون الله" .
فقال له أنبا ايسيذوروس هؤلاء الذين في الغرب هم الذين يحاربون القديسين ، وهؤلاء الذين في الشرق هم الذين أرسلهم الله لمعونة القديسين . وكثيرين جداً هم الذين معنا ، أفلا نتشجع ونتقو اذن مادام ملائكة الله يحاربون عنا؟! . فشكر الأنبا موسى الله كثيراً ، وعاد الى قلايته ثابتاً في الإيمان ، قوياً في الرجاء ، عالماً ان الذي معنا اعظم من الذي علينا ، وان الله الساكن فينا والحافظ ايانا بنعمته ، هو أشد وقوة من الشيطان " الذي يجربنا " .
ولما رأى أنبا ايسيذوروس قوة إيمانه وعظم صبره ومثابرته ، قال له :" امضي الى البيعة وتناول من الاسرار الالهية ، وانا أؤمن انه باسم يسوع المسيح من هذا الوقت فصاعدا سوف تبطل الشياطين قتالها عنك " وفي موضع آخر يكمل قائلاً لقد سمح الله بهذه التجارب القاسية لكي لا يعتريك روح الكبرياء ولئلا تنسب انتصاراتك على العدو الجهنمي الى قوتك الذاتية والى الاماتات التي كنت تباشرها .
لقد أخذ القديس أنبا ايسيذوروس الانبا موسى الاسود وناوله من الاسرار الالهية فخرج فرحا مسرورا ومتهللا ، وإذ أخضع نفسه بأنسحاق لطاعة معلمه وواظب على التناول من الاسرار الالهية ، اعطاه الله نعمة عظيمة وتواضعا وسكوتا .
وبدأت تنحل عنه الأفكار ومن ذلك الوقت عاش الأنبا موسى في سلام وهدوء الحواس ، وسكون النفس ، وأزداد حكمة وقوة ، وصار له سلطان عظيم على الارواح النجسة فكان لا يحفل بها على الاطلاق وعندما كانت تحاول أن توقع به في اليأس أو القنوط كان ينهض ممتلئا ثقة واذا جربته بالكبرياء أزداد تواضعا وذلة أمام الرب .
وأخذ الأنبا موسى يرتقي درجات الحياة الرهبانية ، واحتل مقاما رفيعا بين الآباء المتنسكين في القفار الى الحد الذي يذكر فيه راوي سيرته ، أن الناس صاروا يتركون الآباء والشيوخ الذين لهم اسم وصيت في البرية ، وأخذوا يسألون عن الأنبا موسى ، لم يكن هناك في البرية من يتحدث عن النسك والآباء ، إلا ويذكر قاطع الطريق التائب ، الذي ترك سيفه وأمسك عصا الرعاية وصار راعياً طيبا حلوا ، وأبا لكثيرين . 
ذات يوم اجتمع حوله خمسمائة أخ وأرادوا أن يرسموه قساً، ولما حضر أمام الأب البطريرك لرسامته، أراد البطريرك أن يجربه فقال للشيوخ: " من أتى بهذا الأسود إلى هنا، اطردوه " فأطاع وخرج وهو يقول لنفسه: " حسناً عملوا بك يا أسود اللون "، ولما رأى الآب البطريرك اتضاعه واحتماله استدعاه ورسمه قساً وقال له: " يا موسى قد صرت الآن أبيض بالكامل ".

من أقوال الأنبا موسى الأسود 


فضائله 
كان يخرج ليلاً والظلام باق ، والجو مكفهر في البرية ، لا يشجع احدا على الخروج ليأخذ من أمام أبواب القلالي جرار الشيوخ الفارغة ، ليملأها لهم بالماء من بئر تبعد عن القلالي مسافة من ميلين الى ستة أميال ، أي على بعد يستغرق من ساعتين الى ثلاث ساعات سيرا على الاقدام ، يحمل الجرار فارغة ذهابا ، ومملؤة إيابا ، دون أن يدري به أحد . ولعل الله حين سمح لعدو الخير أن يضربه بالقرحة في قدميه في احدى المرات أنما أراد أن يظهر بر قديسه .
 أن موسى إذ أختبر حلاوة العشرة مع الله ، لم يشأ أن يكتفي بنفسه ، وأنما أراد أن يكتسب نفوس رفقائه في الشر ، وفي بداية توبته تذكر لنا احدى الروايات أنه أحضر معه أحد رفقاؤه القدامى وترهب معه . ومن ناحية أخرى تروي لنا السيرة ما يلي : تصادف يوما انه بينما كان خارج قلايته ، إذ بأربعة لصوص من رفقاؤه القدامى يهجمون على قلايته دون معرفة منهم بقصد سلب ما يجدونه هناك . فلما عاد موسى ورآهم وكان ذا قوة رغم صياماته واماتاته المستمرة للجسد ، انتصر على الأربعة وأوثقهم جميعا وحملهم على كتفيه الى الكنيسة كصبيان صغار حيث قال لسائر الرهبان المجتمعين : " أيها الآباء ، لا تطاوعني نفسي منذ دخلت الدير ان أفعل شرا بأحد ولكن هؤلاء اللصوص الأربعة سطو علي وأرادوا سلبي ، فامسكتهم وربطتهم جميعا كما ترون وأحضرتهم لديكم لتفهموني عما تريدون أن أعمله بهم .
أما اللصوص ففي وسط دهشتهم من هذه القوة المفرطة فقد سألوا واستعلموا عمن أرادوا سلبه وإذ عرفوا أنه موسى زعيمهم وقائدهم بعد أن تاب وندم عن سابق سلوكه ، مست النعمة الالهية قلوبهم وحركتهم على ان يحتذوا بمثاله وفي الحال قدموا توبة واعترفوا بخطاياهم طالبين الغفران وارتداء ثوب الرهبنة - مثل زعيمهم - وهكذا تم لهم ما سألوه وقضوا بقية حياتهم في القداسة حتى ان أحد الكتاب يرى ان السبعة الذين استشهدوا مع موسى ، انما هم رفقاؤه الأولون.
- استمر القديس موسى الأسود في حياة التقوى والزهد وحدث أن قوما أتو اليه من مصر ليسمعوا منه كلمة منفعة ، وحين حان وقت الغداء وأراد الأخوة ان يأكلوا إذا به يضع على المائدة قطعة من ثعبان مشوي ، وإذ ظنوها قطعة من السمك ، مدوا أياديهم اليها ليأكلوا فقال لهم : " لا تقربوا هذا يا أخوتي ، فأنه وحش شرير " فقالوا له لماذا فعلت هكذا يا أبانا ؟ " فقال لهم : " أغفروا لي يا أخوتي فإن هذه النفس المسكينة أشتهت سمكاً ، ففعلت هذا كي ما أكسر شهوتها الرديئة " فتعجب الأخوة كثيراً من عمل الشيخ هذا ، وكيف أنه لم يتمم شهوته معذباً فكره ، وأعطوا المجد لله الذي أعطى قديسه هذه النعمة العظيمة .
- حدث لما أراد الأنبا موسى أن يدخل الى البرية الجوانية ، انتابه قلق من جهة نقص المياه واحتمال عدم توفرها ، فجاءه صوت :" أدخل ولا تهتم بشيء " . فدخل الأنبا موسى وأقام عند صخرة ، وفي احد الأيام زاره قوم من الآباء ولم يكن له وقتئذ سوى جرة ماء فقط ، فأعد قليلاً من العدس ، ولما نفذ الماء حزن الشيخ ، وصار يخرج ويدخل عدة مرات .... وإذ بسحابة ممطرة قد جاءت فوقه حيث كانت الصخرة ، وسرعان ما تساقط المطر ، فامتلأت أوعيته من الماء . فقال له الآباء :" لماذا كنت تدخل وتخرج ؟ " فأجابهم : " كنت أحاجج الله قائلاً له : أنك انت الذي جئت بي الى هذا المكان ، وليس عندي ماء ليشرب عبيدك . وهكذا كنت أدخل وأخرج مصلياً لله ، حتى أرسل لنا الماء " .
- قيل ، أخطأ أخ في الاسقيط يوما ، فانعقد مجمع بسببه من الآباء لإدانته ، وأرسلوا في طلب الأنبا موسى ليحضر ، فأبى وأمتنع عن الحضور ، فأتاه قس المنطقة وقال :" أن الآباء كلهم ينتظرونك " . فقام وأخذ كيساً مثقوباً وملأه رملاً وحمله وراء ظهره ، وجاء به الى المجلس . فلما رآه الآباء هكذا قالوا له : ما هذا أيها الأب ؟ فقال :" هذه خطاياي وراء ظهري تجري دون أن أبصرها ، وقد جئت اليوم لإدانة غيري على خطاياه " . فلما سمعوا ذلك غفروا للأخ ولم يحزنوه في شيء .
- كان الأنبا موسى الأسود يقابل جميع الذين يزورونه بالمحبة واللطف كمثل النفوس المتواضعة .. وحدث أن أُعلن مرة في الاسقيط ، أن يصوم جميع الرهبان أسبوعاً كاملاً ، وفي هذه الأثناء أقبل عليه أخوة من مصر ، يريدون زيارته ، فطبخ لهم شيئا لطعامهم . فلما رأى الرهبان القاطنون بجواره دخانا صاعدا من قلايته ، أبلغوا الأمر الى الشيوخ قائلين : هوذا موسى قد حل الوصية ، إذ أعد طبيخا . ولكن هؤلاء الشيوخ ، إذ كانوا عارفين بتقوى موسى وتقشفه ، ومقتنعين أنه لن يفعل ذلك من نفسه . طمأنوا المشتكين أنهم سوف يفحصون الأمر متى حضر الى الكنيسة . فلما كان يوم السبت وأجتمع الكل ، وعلموا السبب الذي من أجله كسر الأنبا موسى الوصية ، حينئذ قالوا له علانية :" أيها الأب موسى ، حقا لقد ضحيت بوصية الناس ، في سبيل أتمام وصية الله " .
أي أن الأنبا موسى لم يهتم بتدبيره الخاص الذي هو الصوم لمدة أسبوع ، في سبيل أن ينفذ ويتمم وصية الرب .  وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ».  يو35-34:13 
 يو 15 : 12
«هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. 
 يو 15 : 17
 بِهذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.

- قيل أن حاكم المنطقة ( وآخرون يقولون أن ارخنا كبيرا من مصر ) سمع يوما بفضائل القديس فأتى الى الاسقيط ليراه ، وانتهى الخبر الى الأنبا موسى ( وكان يومذاك متقدما في السن ) فخرج من قلابته وذهب على وجهه ، ليجد له مكانا يختبيء فيه . وبينما هو ذاهب ، التقى بالحاكم في الطريق ولما كان الحاكم لا يعرفه ساله قائلا " أيها الرجل العجوز ، هل يمكنك أن تعلمني أين قلاية الأب موسى ؟" . فأجابه قائلا « ما الذي يعنيك أن تأتي مفتشاً عن رجل مجنون أحمق ». 
فتعجب الحاكم من هذا الجواب ، وتوجه الى الاسقيط ، واخبر الشيوخ بما قيل له قائلا : يا أبائي لقد سمعت كلاما كثيرا عن الأب موسى ، وجئت الى الصحراء لكي أراه ، وعلى مسافة من هذا المكان ، تقابلت عند المستنقع مع رجل عجوز وسألته أين قلاية الأب موسى فرد علي قائلا " أن في الذهاب اليه مشقة كبيرة وهو رجل عجوز غير مستقيم " . فاغتاظ الشيوخ من هذه الاساءة التي قيلت في حق من ثبتت لديهم فضائله ، وسألوه عمن تجرأ على النيل من كرامة القديس المذكور ، فأجابهم : أنه شيخ كبير السن ، أسود اللون ، يلبس أثوابا بالية جدا ، وله ذقن بيضاء طويلة ، ونصف رأسه خال من الشعر . فعرفوا من هذه العلامات انه القديس موسى نفسه ، هو الذي كلمه بذلك تجنبا من زيارته . فتعجب الحاكم جدا من تواضعه الذي دفعه الى الهروب من زيارات الأكابر .
- حدث أن مرض احد الشيوخ في برية شيهيت ، فأتى اليه بعض الاخوة ليخدموه . ولكن مرضه طال ، فخشى ان يتعب الاخوة معه ، فطلب أن يحملوه الى القرية . فقال له الأنبا موسى « لا تذهب ، لأنك ان ذهبت فستقع في خطية الزنى ».
فتوجع الشيخ في قلبه وقال : حواسي قد ماتت وانت تقول لي هذا يا أبي ؟! . وبعد ذلك مضى الى العالم ، فسمع به الناس وجاءوا ليخدموه ، ومن بينهم عذراء ، مكثت عنده تخدمه ، وعندما طال الزمان ، وقع الشيخ معها في الخطية ، وحبلت منه ، ولما رآها الناس سألوها عمن فعل بها هذا ؟ . فقالت لهم الشيخ ، وأما هم فلم يصدقوا ، حتى قام الشيخ وقال لهم انا الذي فعلت هذه الخطية ، لكن حافظوا على هذا الطفل المولود واعطوه لي .
ولما اعطوه الطفل أخذه وصعد به الجبل . وكان ذلك اليوم ، يوم عيد . فدخل به الى الكنيسة ، قدام جميع الأخوة ، ووضعه أمامهم وهو يبكي ويقول : " أنظروا لهذا الطفل . أنه أبن المخالفة والخطية . فدينوني الآن . ففي شيخوختي صنعت هذا " فبكى معه الأخوة جميعا وصلوا من أجله ، حتى تراءف الله عليه .
- قوما أتوا لزيارته ، وكان بينهم انسان به روح نجس ، فإذا به يصيح قائلا " يا موسى الأسود ، أرحمني " فعلم الأخوة أن نعمة الله مع موسى ، وصارت الشياطين تخرج من كثيرين علانية .
- حدث أن بقرة أشنت ولدها ( أي لفظته وأبعدته) ولم تدعه يشرب منها اللبن ، حتى أوشك على الموت فأتوا بها الى الأنبا موسى ، الذي صلى على ماء ثم سكبه على رأسها وكل بدنها ، وللوقت لحست البقرة وليدها وتركته يرضع منها   
نياحته
مضى في إحدى المرات مع الشيوخ إلى القديس مكاريوس الكبير فقال القديس مكاريوس إني أرى واحداً فيكم له إكليل الشهادة فأجابه الأنبا موسى: " لعلى أنا لأنه مكتوب كل الذين يَأْخُذُونَ بالسيف، بالسيف يَهْلِكُونَ " (مت 26: 52).
ولما رجع إلى الدير لم يلبث طويلاً حتى هجم البربر على الدير في غارتهم الأولى سنة 407م، فقال للإخوة " من شاء منكم أن يهرب فليهرب " فقالوا له وأنت لماذا لا تهرب يا أبانا؟ فقال:
" أنا أنتظر هذا اليوم منذ عدة سنين ". ثم دخل البربر وقتلوه هو وسبعة إخوة كانوا معه، وكان واحدٌ مختبئاً وراء حصير فرأى ملاك الرب قد وضع أكاليل على الشهداء، وبيده إكليل وهو واقف ينتظره، فخرج مسرعاً إلى البربر فقتلوه ونال معهم إكليل الشهادة.
ويختتم السنكسار القبطي سيرته بهذه الكلمات :
فتأملوا أيها الأحباء قوة التوبة وما فعلت فقد نقلت عبداً وثنياً قاتلاً زانياً سارقاً، وصيرته راهباً ومعلماً وكاهناً وقديساً وشهيداً عظيماً. ويوجد جسده الطاهر مع جسد معلمه القديس إيسوذورس في مقصورة بدير البرموس العامر بوادي النطرون.
بركة صلواته فلتكن معنا. آمين.




إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu