Ad Code

سيرة القديس العظيم الأنبا ميصائيل السائح

الأنبا ميصائيل السائح

القديس ميصائيل السائح



كلمة لابد منها

كاتب هذه السيرة المباركة هو الأب إسحق رئيس دير القلمون في ذلك الوقت ، وقد عاصر هذا الأب الكثير من الأباء القديسين الذين عاشوا في رحاب الدير ومنهم من وصل إلى درجة السياحة ، وقد دون هذا الأب سيرة اثنان من الأباء السواح هما الأنبا غاليون السائح والأنبا ميصائيل صاحب هذه السيرة المباركة ، وإن كان صاحب هذه السيرة قد سلك في طريق النسك الزائد إلا أنه لا يليق أن يسلك أحد هذا المسلك مقلداً بدون إرشاد من أب روحي حتى لا يكون هدف للضربات اليمينية،  بل كما قال معلمنا بولس الرسول في الرسالة إلى رومية الأصحاح 12 اية 3
فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ. 
فلنطلب أولاً من الله أن يهبنا مقداراً من الحب واتباع الوصايا كما وهب لقديسه الأنبا ميصائيل،  ثم لا يدع أحد النسك هدفه بل المسير في طريق المخلص وليعمل الرب به حسب مشيئته

                      الأنبا ميصائيل السائح 

 «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي ». إش 43 : 1
كان الأب إسحق يقبل في ديره كل من يجد في قلبه الاستعداد الكامل للحياة النسكية الزاهدة في العالم ، وكل من تتوق نفسه إلى التعب والجهاد في الصوم والصلاة والحياة المجمعية المشتركة داخل الدير ، ولأن طريق الرهبنة صعب ووعر وضيق جداً وفي مواجهة مباشرة مع عدو الخير ، يحتاج إلى من يختاره الرب ويدعوه إلى هذه الحياة ، ويضع فيه الإمكانيات والقدرات التي بموجبها ينمو في القامة الروحية إلى ملء قامة المسيح. 
يقول الأب إسحق، ذات يوم كنت جالساً في الدير يوم الأحد فدخل إلىَّ شاباً يافعاً لا يتجاوز عمره الأثنتا عشرة سنة أو أكثر قليلاً وقال لي : يا أبي إسحق أسألك أن تجعلني أحد أبنائك وتلبسني ثوب الرهبنة والأسكيم ، فقد علمت أن لك سلطاناً إذ قد رأيت طاعة الرهبان لك .
فعلمت أنه من شجرة مثمرة وأنه يطلب العبادة الحقة من كل قلبه ، فأجبته يا بني إن الرهبنة تعب بلا راحة ووحدة بلا ونيس وصلاة دائمة وأنت لازلت حدثاً لا تقدر أن تسلك هذا الطريق الكرب .
فأجابني: بمؤازرة ربي يسوع المسيح لي وبصلواتك يا أبي أستطيع فليس شئ غير مستطاع عند ربنا يسوع المسيح. 
فقلت له : يا ابني انك صغير ، ربما خالفت أمر والديك وأتيت إلى هنا فاخبرني بحقيقة أمرك؟! 
أجابني : إن أبويَّ كانا اشراراً لا يصليان ، ولا يرحمان أحدا، رغم كونهما مسيحيان، ولم يكن لهما ولدا حتى طعنا في السن ، وكانا في حزن شديد بسبب ذلك فسألا راهبا قديسا من أجل هذا الأمر . فأجابهما : أمضيا وقدما توبة أولاً إلى الله وسيرزقكما ولدا . فمضيا لوقتهما وتابا إلى الله ورحما الفقراء ومضيا إلى قس القرية ليعلمهما الصلاة ، فلم يحفظا إلا المزمور الخمسين " ارحمني يا الله كعظيم رحمتك .. " وكانا يصليان فاستجاب الله لهما ورزقهما اياي فاحسنا تربيتي ، وكانت لهما ممتلكات كثيرة من البقر والغنم والأثاث فتصدقا منها على الفقراء . ولما بلغت السنة الخامسة من عمري مات والدي ، وبعد سنة أخرى ماتت والدتي ، وبقيت وحدي ولم يبق من الأموال إلا القليل ، وحين علم الأب الأسقف بذلك حفظ لي الباقي من هذه الأموال ، ففكرت في نفسي وقلت أين والدي ؟ وأين والدتي ؟ وأين القوم الأوائل ؟! فأدركت أن هذا العالم كلا شئ وأنه زائل ، فهربت للوقت إلى هذا البرية وها أنا بين يديك يا أبي .
فأجبته : يا بني امضي اختر لك مسكنا ، وإن صبرت على التعب والوحدة والصلاة فإنك تكون راهبا ، ثم أوصيته أن يتعلم كتب البيعة ويحفظ المزامير ، وعينت له أبا يعلمه أدب الرهبنة .

رهبنته

لم تمض سنة على ذلك إلا وكان قد تعلم جميع علوم البيعة وحفظ الكتب المقدسة،  وكان مجتهدا في الصلاة والصوم ، وأن الشيخ الراهب أتى إليّ وقال لي : قد تعلم الصبي جميع علوم البيعة إذ به روح الله. 
فقلت أنا الضعيف إسحق أريد أن اختبره فاختبرته في التعب والكد ومحبة الصلاة والتسبيح ومحبة الأخوة ،  وألبسته الاسكيم المقدس وأسميته " ميصائيل " ، وللوقت حل عليه الروح القدس وصار وجهه يضئ كثيرا . 
وكان منفردا في قلايته لا يعلم أحد بأمره ، فلما انفرد في قلايته بدأ يشجع نفسه ويقول " يا نفسي أعرفي مقدار الكرامة والموهبة التي أنعم الله بها عليك إنك صرت بهذا الشكل من جملة أجناد الملائكة المقدسين الذين لا يفترون عن تسبيح ملكهم . ابتعدي عن كل ملاذ العالم وشهواته وليكن لباسك حقيراً ولا تلبسي جديداً بل عتيقاً يستر عورة الجسد ، احذري أن يكون لهذا الجسد المائت حكما عليك . واصبري على كل ما يأتي عليك من الشدائد والأحزان، فإن من غرس شجرة الصبر أثمرت لغارسها الغلبة على كل أعدائه ، وإن أسعد السعداء من سما إلى العلو ، فخف من الله وأعمل بوصاياه ومن غَرس شجرة الكسل أثمرت له الحرمان ، فإن أشقى الأشقياء من تطلع إلى الشيء وليس هو له ،  وفي ذات ليلة أتى إليّ أحد الآباء الرهبان وأخبرني أنه سمع صوتا من رجل يعاتب نفسه قائلا : " يا نفسي اعلمي أن الجسد لا يشتهي إلا لذات الدنيا ، وكل هذا لأجل خطاياك،  فإذا اشتهيت الخلاص فاهربي من كل هذا " ... فأدركت أن الشيطان يعرض له أمور العالم .
فمضيت إلى قلاية القديس ميصائيل وقرعت ففتح لي ووجدته لم يكمل صلاة نصف الليل ، فانتظرت حتى أكملها ، وتحدثت معه قائلًا : ما هذا الذي سمعته في هذه الليلة ، هل أتاك العدو ؟ .
فسجد لي وقال : " يا أبي أن الشيطان يعرف الموضع الذي أذهب إليه وهو لا يقدر أن يسمع الصلوات " .
ثم وجدت عنده كتاب حكمة سليمان كان يقرأ منه فتحققت أنه حكيم .

جبار في نسكه

في أحد الأيام ذهبت لأفتقاده فوجدته قائما مبتهلا بالصلاة ويقول " اللهم خلصني وانظر إلى ذلي فإن أبي وأمي قد تركاني، والرب قبلني " فقرعت الباب ففتح لي ، فوجدت أن جسده قد صار مثل الحطب اليابس ووجهه قد تغير ، وقد صارت يداه مثل الجريد ( الجزء الصلب الرفيع في سعف النخل ) ولم يبق إلا عيناه إذ كان ينظرني بهما ، وكان لا يكلمني ، فحزنت حزنا عظيما وانفطر قلبي وبكيت حين رأيته على هذا الحال .
فقال لي : يا أبي إسحق يجب أن تفرح فلما تبكي ؟ .
فقلت : كيف لا أبكي،  وقد كنت عند دخولك الدير شاباً لطيفاً صغيراً حسن الصورة بل وأحسن من أولاد الملوك ، وها قد صرت اليوم مثل الميت وقد فنى جسدك .
فأجابني : لا تنظر لجسدي فإن الله لم ينقص ضوء عينيّ وسمع أذنيَّ لأطالع الكتب المقدسة وأسمع الكلمات الروحانية ، وقد قواني له الشكر للوقوف بين يديه ، فهذا الجسد يطلب الدنيا ، لذلك منعته ولم أمكنه من أِرادته ، فصار هكذا .
فعلمت أنه قديس عظيم،  وطلبت منه أن يصلي عليّ .. ولما أردت الخروج من عنده أمسك بي ثم قال لي : يا أبي الحبيب الذي شملني برعايته والرب يعضدني ببركة صلواته ، أريد أن أخبرك بما رأيته في منامي :- أنه بعد ثلاثة أيام يأتي إلى هذا الدير قوم من ثغر الإسكندرية وهم أقوياء أشداء فيطلبون منك أحد أولادك الرهبان ، فلا تمنعه عنهم لأنهم رسل الملك لئلا يحزنون الدير ويهلكون الرهبان ، ثم بكي وقال ، أنا هو ذلك الراهب ، فاعلم يا أبي الذي منذ دخولي الدير وأنت تفتقدني بمحبتك الحانية وتشملني بأبوتك الصادقة ورعايتك الكاملة ، وببركة صلواتك الرب يقبل جهادي ويغفر لي خطاياي هذا الأمر ولا تحزن لأجل ذلك فإن الله معي وهو الذي يحمينا ، وإني أخبرك يا أبي أني سوف آتي بعد ذلك،  وأعلم أنه في العام القادم ستجدب الأرض وينتشر الغلاء نظير المجاعة فلا تخف فإني آتيك فيه،  وسترى ما سيكون بمشيئة الله. 
فتحيرت في فكري لأجل ما قاله ... وإني قلت للآباء الرهبان ذلك فتعجبوا جدا .

خروجه للسياحة

 وبعد أيام قلائل أتى قوم من ثغر الإسكندرية ومعهم كتاب بأسم هذا الراهب المبارك مكتوب فيه " إحملوا ميصائيل وأتوا به ولا تؤخروه من يوم إلى غد " وقدموه إلي أنا الضعيف إسحق فأغتميت وحزنت على فقد أحد أبنائي وفضلت أن أنكر وجوده عندي وليفعلوا بي ما يفعلوا على أن أتركهم يأخذون أحد أبنائي وسبب بركة كبيرة في الدير فقلت لهم : إن هذا الراهب ليس عندي .
وللوقت أمسكوني أنا المسكين إسحق وربطوني بسلسلة من حديد وشدوني إلى عمود رخام ، وأخرجوا كل رهبان الدير من صوامعهم وأرادوا أن يأخذوني معهم إلى الإسكندرية،  فلما رآهم القديس ميصائيل قال لهم : من تطلبون ؟
فقالوا له : ميصائيل الراهب الشاب فإن الملك يطلبه .
فقال لهم : دعوا هذا الشيخ وأنا أدلكم عليه .
وأنهم تركوني وأخذوا القديس ميصائيل وخرجوا من الدير ، ولم أعد أعرف له خبرا ، فبكيت أنا والأخوة أياما على فراق هذا الإبن المبارك وكم تمنيت لو كنت وضعت نفسي عوضا عنه ، ولكن ربنا له كل المجد أرسل عزاء سريعا لقلوبنا من الكلمات التي قالها القديس قبل مغادرته وهي أن الله معه وهو الذي يحمينا ، فسلمنا فصرنا نُحمل .
وإذ جوع قد حدث في الأرض حتى مات قوم من قلة الطعام ولأن القديس كان سبق فأخبرني بذلك فقد كنت قد جمعت سلفا كميات كبيرة من القمح والشعير والجلبان والحمص والفول وغير ذلك ، فكنت في أمن من الجوع .
فلما سمع الوالي أن في هذا الدير طعام أتى بجنوده وضرب حصار وختم على الدير وطلب المخزون من الطعام في الدير ، فلما أشتد الطلب ولم يكن بيدي حيلة بكيت وتذكرت كلام القديس ميصائيل ووعده أنه سيأتي لي في هذا الوقت وينقذني في زمن الجوع. 
لما اشتد الطلب من قبّل جنود الوالي أكثر فأكثر وتعالى تهديدهم لنا بالويل والثبور وعظائم الأمور ، أقبل جمع من البرية أشداء أقوياء في زي جنود يمتطون أحصنة وفي كامل عتادهم،  فلما نظروا الوالي وجنوده قالوا له : ماذا تريد من هذه البرية ؟! .
أجاب : إن في هذا الدير طعاما وليس في الأرض طعام ! .
فقالوا له : امض ولا تعد تأتي إلى هذا الدير لئلا تموت بالسيف .
وإذ وقعت رهبهتم وخوفهم عليه مضى لوقته ومن معه ، ولم ينل الدير أي أذى منهم ، فذهبت أنا إسحق لأعرف من هؤلاء القوم وأقدم لهم طعاما،  فقالوا أنتم المحتاجون إلى هذا الطعام ، وتقدمت إلى رئيسهم وقلت له : يا أخي من أين أنتم ؟! .
فقال واحد منهم : نحن موكلين بهذه البرية من قِبّل الملك ، ولا ندع أحدا يؤذي ساكنيها. 
فسجدت لهم إلى الأرض ليعرفوني مَن هم ، لكنهم تركوني وانطلقوا عائدين إلى البرية حيث لا مكان هناك ولا يوجد قاطن لهذا القفر ، ففكرت كثيرا في ذلك ...
وإذا شاب انفرد عنهم وأخذ بيدي وجلس أمامي وقال يا أبي إسحق : حقا لقد رحمني الله ورد لي عاقبة طاعتي له إلى النياح ، فإني ابنك ميصائيل الذي البسته ثوب الرهبنة وهؤلاء القوم هم الذين أتوا وأخذوني معهم ، ولم يرني أحد من الناس من ساعتها سواك لأجل ما وعدتك به ، وهم جند السماء والمدينة التي قالوا عنها الإسكندرية هي أورشليم،  ونحن نأتي إلى هذا المكان وغيره ممن فيه خشية الله وطاعته .
فقلت له : يا أخي وابني الحبيب ميصائيل هل يمكنني أن أصير كواحد منكم لأستريح من رعاية هذا الدير ، فإنه يوجد رعاة كثيرين أجدر وأفضل مني .
أجابني : لا تستطيع ذلك يا أبي فقد أُعطي لك سلطان من السماء لتهتم بالأخوة وتدبرهم فلا تخف يا أبي إسحق فالرب لك معينا .

بناء بيعة على اسمه

وعزاني بكلام كثير وسألني عن إخوته،  وأوصاني أن أوصل إليهم سلامه وقبلات المحبة الأخوية .. ثم قال لي امض إلى الآنبا اثناسيوس اسقف البلدة التي تربيت بها ، واطلب منه أموالي التي خلفها لي أبي وأمي وخذها منه وابن لي بيعة بالدير على اسمي ، ومضى لوقته ولحق برفقته. 
بعدها مضيت إلى الأب الأسقف كما أوصاني فأعطاني سبعمائة مثقال من الذهب ، وتسعمائة درهم من الفضة ، وأربعمائة ثوب صوف ، ومائة ثوب جلد ، ومن الدواب خمسمائة ، ومجلدات وكتب ، ومصاغ وأوان كثيرة... فتعجبت من ذلك وأتيت إلى الدير،  وأخذت القلاية التي كان يسكنها وبنيت بيعة لطيفة ، ولما دنا يوم تكريسها مضيت إلى الأديرة والبلاد ونواحي الصعيد وأخبرت بذلك اليوم فاجتمع الناس للتكريس وحضر التكريس أسقف " فاو " وجماعة من الأساقفة والرهبان والكهنة،  ولما بدأت صلوات التكريس نظرت الجماعة التي كنت قد رأيتها ، وقد دخلت البيعة وبأيديهم عصى يشع منها نور في وسطه صلبان وأنا قد رأيتهم وعرفتهم أما بقية الناس فلم ينظروهم ، وتقدمت وسجدت أمامهم وسألتهم أن يصلوا عليّ ، وتقدمت إلى ابني ميصائيل وسلمت عليه،  وكانوا واقفين حتى انتهى التكريس وانصرف الناس،  ومضت أيضا هذه الجماعة ولم يبقى منها إلا القديس ميصائيل الذي قال لي : يا أبي إسحق . اصنع لك مدفنا في هذه البيعة فإنه في العام التالي في مثل هذا اليوم ستنتقل إلى دار البقاء والنعيم المعد لك ، وكان تكريس هذه البيعة في اليوم الثالث عشر من شهر كيهك في عام ست وتسعين وثلاثمائة من سنى دقلديانوس .
وانصرف القديس ميصائيل السائح ولم أعد أنظره بعد ذلك،  فمضيت وصنعت لي مكانا لجسدي في الناحية البحرية من هذه البيعة .
فأنا إسحق قد رأيت القديس ميصائيل وطاعته لوصايا الله ورفضه لجميع ملذات العالم ، وقد صار مثل الملائكة في تسبيح مستمر لرب الأرباب. 
وتعيد له كنيستنا القبطية في الثالث عشر من شهر كيهك المبارك ، بركة صلوات وطلبات القديس ميصائيل السائح وكل الرهبان والمتعبدين والسواح تكون معنا والمجد للثالوث الأقدس .







إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu