وحسب ترتيب الله ، إذ علمت بذلك زوجة الحاكم فكرت أنه ربما يأخذ الملك هذين القديسين إلى القسطنطينية فحزنت جداً لأنه كانت لها ثقة كبيرة فيهما ففي الحال أرسلت أولادها سراً وأيضاً واحد من الخصيان ليلاً وأعلمت القديسين أن الملك قد بعث إليكما لإستدعائكما إلى القسطنطينية فإذا أردتما ذلك فأهربا . ولما سمع ذلك القديسان أسرعا في الحال وخرجا من الدير قائلين هذا هو الوقت الذي يريد الله أن يأخذنا إلى مكان أبينا أنبا مكاريوس رجل الله بالحقيقة . وإذ كانا يمشيان وجدا راعياً عجوزاً جالساً في كوخ في مكان قفر فاختبئا عنده . وفي الغد ذهب نائب الملك والذين معه إلى الدير باحثين عن الطوباويين فلم يجداهما . حينئذ أمر الحاكم أن يُبحث عنهما بتدقيق في كل سوريا وفلسطين لأجل هذا ظل هذان القديسان مختبئين أياماً كثيرة ولم يقدرا على الظهور كلية ً لأن كل سكان سوريا كانوا يعرفونهما ومن حولها . وبعد ذلك قاما بمشورة الله وخلعا ثياب الرهبان ووضعاها في أكياس ولبسا ثياب علمانية وربطا بلفائف رأسيهما كي لا يعرفوهما . ثم خرجا وكل واحد لابساً الثياب العلمانية السورية وكانا يمشيان يضرعان لله قائلين " يا إله أبينا أنبا مكاريوس سوف تهدينا وتقودنا إليه بسلام " ولما سارا يومين على مشارف البحر قال الصغير للكبير بجراءة كبيرة : تشجع يا سيدي الأخ لأنه بمشيئة سيدنا يسوع المسيح إلهنا بالحقيقة وبصلوات القديس أنبا مكاريوس الذي رأه في رؤية أبينا الطوباوي أغابوس والذي قال أأمر ولديك بعدك بأن ينزلوا إلى مصر ويسكنوا بالقرب مني وإذ نؤمن أن صلواته تهدينا حتى نصل إلى الإسكندرية حيث موضعه فلنسير يا أخي إذاً على هذا الشاطئ الجنوبي للبحر بلا توقف حتى نصل إلى الإسكندرية ، ألم تسمع التاجر الذي قال لنا قديماً أننا نبحر نحو الشاطئ الجنوبي للبحر حتى نصل إلى الإسكندرية . فقال الكبير للصغير : وأين نجد ماء لنشرب ؟ . فقال له الصغير بثقة ثابتة : يا سيدي ، يسوع المسيح فليحول هذا الماء ، ومن هذه الصخور عيون ماء . فقال له الكبير : نعم يا سيدي أؤمن بأنه يستطيع عمل كل شيء ولكن أغفر لي يا أخي لأني أخطأت أيضاً مثل إنسان ، وبعد هذه الكلمات مشيا بفرح وسرور قلب مرتلين ومسبحين لله ، وكانا يشجعان بعضهما باستمرار ، فالله الذي قاد إسرائيل قديماً في البرية وفي البحر هو أيضاً قادهما وكانا إذا عطشا وذهبا للبحر ليشربا منه وجداه حلواً دون أن يسألان بعضهما هل هذا حلواً أم مراً . ولما سارا وصلا صخرة وعرة حتى أنهما كانا يمشيان على أيديهما وأرجلهما مرات كثيرة وكثرت المتاعب التي تحملها هذين الطوباويين على الصخور المتعبة التي هناك ولم يكونا يعلمان إلى أين يتجهان ، ولكن فرح قلبيهما بالمسيح والرجاء الذي في قلبيهما جعل الألم خفيفاً عليهما ؛ وكما قال لي هذان الطوباويان اللذان لما مشيا تسعة أيام وتألما جداً من أجل هلاك أرجلهما لأنهما كانا ذوي أجساد رقيقة ولم تتعودا على هذه الآلام بتلك الصورة ، حينئذ كما قالا : لما صعدنا على صخرة مرتفعة كثيراً لم نستطع أن نمشي ولكن رقدنا على الصخرة متوجعين جداً . هل ترون شجاعة هذين المجاهدين من أبطال المسيح اللذين استشهدا دون سفك دم بأنواع العذاب الكثيرة التي لاقوها . لقد بقيا خمسة أيام أخرى راقدين على الصخرة التي هناك بدون طعام ولا شراب مضطجعين مثل أموات . ولكن الله الذي يخلص الذين يرجونه في كل زمان وينقذهم من التجارب كلها . الذي افتقد دانيال ونجاه من فم الأسود وخلص يونان من بطن الحوت والذي نجا سوسنة من القرار بالحكم بالموت هو أيضاً خلص عبيده الروميين من وحوش ذلك المكان والطيور المفترسة التي كانت على مشارف البحر ؛ إله القوات الذي نقل أخنوخ حتى لا يرى الموت والذي أرسل عربات نار لتُصعد إيليا هو أيضاً الرب الذي أرسل ملاكه فحمل هذين القديسين في الهواء بلا مشقة حتى أحضرهما إلى شيهيت وتركهما على الصخرة الكبيرة حيث عين الماء جنوبها ؛ لأن في هذه الصخرة علامة الله قد حدثت إذ ظهر لخادم الله أنبا مكاريوس فدعاها صخرة الحفرة إلى هذا اليوم .
أميلوا آذانكم لتسمعوا تلك الأعجوبة التي حدثت لهذين الطوباويين حسب ما أخبراني هما به . لأنه حدث في الليلة التي قاد فيها الله هذين الطوباويين إلى شيهيت أن رأيا في الليل رجل نورانياً في وسطهما ماسكاً أيديهما طائراً معهما في الهواء إلى أن أحضرهما إلى الصخرة التي سبق أن أشرنا إليها ، حينئذ قالا :" وإذ قمنا في الصباح بالقوة التي وهبنا المسيح إياها ووجدنا أنفسنا على الصخرة في شيهيت ، ولما نظرنا إلى الجبل رأينا وادي الماء ونخل صغير منزرع وكل ما في الجبل فتعجبنا ، كما لو كانت قلوبنا مذهولة ، ففكرنا فيما حدث لنا إذ كنا في المساء مضطجعين في ضعف على شاطئ البحر سامعين اضطراب الأمواج . أما اليوم فواقفان في هدوء متقويين ونرى نخيلاً وآبار ماء ومناظر أخرى مماثلة عجيبة الشأن ، وبعد قليل إذ كنا ننظر إلى هنا وهناك حوالي الساعة الخامسة رأينا رجلاً يقود جمالاً في الوادي بالجنوب منا ففرحنا جداً وتشددنا في قلوبنا وأنفسنا وعندما نزلنا من على الصخرة كنا نقترب منه كي نسأله أين هذا المكان ، فلما رآنا ونحن لابسين الملابس الأجنبية والمناديل مربوطة على رؤوسنا خاف جداً وبدأ يهرب وترك الحيوانات ، فتوسلنا إليه حتى وقف ولما اقتربنا من الرجل تكلمنا معه نسأله أما هو فلم يفهم كلامنا ونحن أيضاً لم نفهم كلامه ، وأخيراً قال لنا مشيراً إلينا تعالوا لآخذكم إلى موضع أنبا مكاريوس ففرحنا وتعزينا جداً . وهكذا تبعنا الرجل شاكرين الله وممجدينه لأنه قادنا إلى مكان عبده وعندما وصلنا إلى نبي الله قبلنا إليه بإتضاع وسألنا أتيتما إلى ذاك المكان لأجل أي أمر ، أما نحن فأجبناه قائلين أننا سمعنا عن فضائلك وعن شيهيت وجئنا لنسكن في ظلك لتجعلنا رهباناً . أما هو فالتفت إلينا جيداً ثم قال لنا : لا تستطيعان أن تبقيا في هذا المكان لأنه قفر مُتعب . ولكننا أعطينا مطانية له قائلين لو لم نستطع البقاء في هذا المكان فسوف نذهب إلى أسقيط آخر فلأجل الله لا ترفضنا بعيداً عنك يا أبانا الصالح . فقال حسناً إذا كان الأمر كذلك تعاليا لكي أريكما المكان الذي سوف تسكناه هناك . ولما قادنا أخذنا إلى صخرة ، وعلمنا كيفية بناء المغارة والعمل اليدوي طبقاً لما في شيهيت " . كل هذه الأشياء قالها هذين الطوباويين لي أنها حدثت لهما لأنني أنا مثلهما كنت من بلدة واحدة معهما وهي القسطنطينية وفي هذه كلها إستحلفاني مراراً كثيرة آمرين إياي ألا أقول شيئاً مما أعلماني به طلما هما أحياء . لأني لو لم أكن أعرفهما من قبل لما قالا لي شيئاً من هذا ولكني كنت أعرفهما وهما أيضاً عرفاني .
عيشتهما وتدبيرهما في شيهيت
ومن ثم سار رسول السيد ، أنبا مكاريوس أمام ابنيه النبيين بل بالأحرى أكثر من أنبياء حيث قادهما إلى إلى الصخرة وأراهما مكان المحجر وأعطاهما أدوات الحفر وعلمهما بمبادئ الجَدل وطريقة الغربلة وأعطاهما كل الوصايا ثم عاد إلى مسكنه بسلام . أما القديسان فقد خلعا الثياب العلمانية السورية ولبسا لباس الرهبان للمكان الذي هناك وكانا يقولان لبعضهما ، انظر لا تدع أحد يعرف اسمينا أو أننا كنا رهباناً من قبل لأنه بالتأكيد ذاك المكان قريب أكثر من سورية .
وقد اجتهدا كثيراً حتى لا يكلما أحدا ولا يزورا أحدا بالمرة خارج مسكنهما والكنيسة . وكان قوتهما الخبز والملح كل الوقت ومنذ دخلا حياة الرهبنة لم يذوقا لحماً مطلقاً ولا مسكراً ولا سمكاً وكانا يصومان في كل وقت يومان يومان متتاليين وكانا يقومان بصلوات كثيرة وكانا يقولان مزاميرهما بين كل ستة آيات الليلويا حسب عادة السريان . وكانا يسكنان شيهيت دون أن ينظرا وجه إنسان كلية ً إلا عجوز كان حارساً ساهراً على النطرون يأخذ عملهما اليدوي ويحضر لهما قليل من الخبز وكان أيضاً يخدم الأنبا مكاريوس لأنه كان يعرفه أيضاً من البدء ويتردد عليه مراراً كثيرة ويأخذ بركته . وإذ كان هذان القديسان يذهبان إلى الكنيسة لم يكونان يرفعان أعينهما مطلقاً لينظرا وجه آخر ، بل كان وجههما مُطرقاً لأسفل دوماً حتى يعودا إلى المغارة بسرعة وانتباه لأنه بالحقيقة لو رأيتهما في هذا المظهر هكذا لكُنت تقول حقاً إن الله يسكن في هذين الرجلين وفي الحقيقة يسكن فيهما مثل إيليا ويوحنا هكذا هذان القديسان يسكن فيهما نار الروح القدس تحرق النشاط الفاسد للأرواح الشريرة التي تحارب مع جنسنا كل حين بلا خجل لأني لست أنا القائل بهذا بل الأنبا مكاريوس الروحاني .
شهادة الأنبا مكاريوس عنهما
ذاك الذي قال : حينما كنت أزورهما بعد ٣ سنوات لكي أعرف مآلهما وقد صار المساء قالا لي أسترحل ؟ . أما أنا فقلت لهما لا بل أبيت في ذلك المكان ووضعا لي حصيراً في ركن من المغارة وناما في مكان آخر ووضعا حزاميهما ( منطقتيهما ) أمامي وتركاهما وكانا صامتين وقد فعلا هذا لأجل حجة ما ، وإنما لأن اسكيم السريان ليس به أكمام إنما ثياباً سوداء التي يلبسونها . وإذ قد رأى هذان الطوباويان أبوهما اللابس الروح الأنبا مكاريوس مرتدياً حزام وتونيه أرادا أيضاً أن يسيرا مثل أبيهما ويشدا أحزمة مثله لأجل هذا أحضرا حزاميهما أمامه وتركاهما على الأرض فاعلين هذا ليصلي عليهما ويقيمهما ويربطهما لهما بيده لأنهما علما بالروح والنبوه الساكنة في القديس أنبا مكاريوس فصلى عليهما . وقال ، طلبت من الله كي يُعلن لي عملهما فانفتح السقف وحدث نور مثل نور النهار أما هما فلم يريا النور . ولما كانا يظنان أنني كنت نائماً أشار الكبير إلى الصغير فقاما وربطا ( الأحزمة ) ، أما أنا فكنت أراهما وأما هما فلم ينظراني فرفعا أيديهما إلى السماء ورأيت الشياطين تأتي على الصغير مثل الذباب وكان بعضهم يأتي على عينه وعلى فمه ، ورأيت ملاك الرب ومعه سيف من نار بيده يرسم حاجزاً حوله يطارد الشياطين ولم يتجاسروا أن يقتربوا إلى الكبير كليةً . ولما كان الصباح قد اقترب استلقيا على الأرض كما لو كانا نائمين وأنا أيضاً فعلت مثل من يغط في النوم وهما هكذا مثلي ، وقال لي الكبير هذه الكلمة الوحيدة " أتريد أن نقول الإثنى عشر مزموراً " فقلت نعم فتلى الصغير ستة مزامير وستة آيات للواحد وهليلويا وكان مع كل آية يخرج من فمه لهيب نار ويصعد إلى السماء ، كذلك أيضاً الكبير كلما فتح فمه مثل حبل نار يصعد إلى السماء ، أما أنا أيضاً فقلت قليلاً عن ظهر قلب ولما رأيت حالهما وعملهما الحسن وعظمة الغيرة التي كانت فيهما لله . وجدت نعمة عظيمة فيهما ، وبينما هما خارجين قلت صليا لأجلي أما هما فطلبا مني أن أعطيهما الإسكيم وهكذا طيبت قلبيهما وألبستهما إياه وتركتهما بسلام .
شفاء الجمل والجمال
ها نحن إذ قد سمعنا العظيم أنبا مكاريوس يخبرنا بكلماته بأن هذين الطوباويين كانا يستحقان نعمة الروح القدس المعزي مثل نار لأنه بالحقيقة لو حاولت أن أقول لكم ما قاله لي هذا العظيم عنهما وما رأيته أيضاً بعيني فقد يزداد الخطاب بالأكثر . لذلك تركت الزائد لأجل الصغار في الإيمان كي لا يفتكروا أن الحقيقة كذب وسوف أقول قليلاً من كثير الوقائع لأتمم الخطاب . إن الرجل الشيخ الذي سبق الحديث عنه أنه كان يخدم هذين القديسين كان محباً للإله للغاية وكان له إيمان كبير فيهما وإذ مرة أخذ جندي جماله إنتقاماً وبينما كان يساعد الجندي العجوز ، قام وصفعه على خده الأيمن أما العجوز التقي فحول له الآخر مكملاً وصية الإنجيل حينئذ أعاد الجندي الظالم الضرب وغرز بآلة كانت بيده في وجه الشيخ وفقأ عينه اليسرى . ولكن العجوز شكر الله لأنه استحق أيضاً أن تفقأ عينه لأجل وصية الإنجيل لسيدنا يسوع المسيح وحدثت له أيضاً مرة بينما يحمل الأشغال اليدوية الصغيرة التي لهذين الطوباويين إلى مصر . كي يصنع القليل من الخبز لهما كعادته وكان هذا قروياً من إقليم أرباط من القرية التي تدعى الذهب . فلما صنع القليل من الخبز للقديسين حمل الجمال وذهب إلى شيهيت ولما وصل المكان الذي ينزل إلى الوادي وكان ماشياً مع الجمل وصل إلى مكان به قاذورات وبفعل العدو الذي يكره كل خير إنزلق الجمل ووقع فكسرت رجلاه إلى الجلد وحده ، فلما حدث هذا بكى الشيخ بمرارة وحزن كبير حتى أنه مزق ثيابه وغطى رأسه بالثياب لأن الجمل لم يكن ملكه ولهذا حزن وبكى ؛ ثم شكر الله قائلاً أحمدك يا ربي يسوع المسيح إله القديسين . وترك الجمل ملقى على الأرض وذهب إلى مغارة هذين الطوباويين وأعلمهما بما حدث للجمل . وإذ لم يعرفا صحة الخبر لكنهما رأياه يائساً فاصطحباه ، ولما وصلا المكان وكانا بعيدين عن الجمل قليلاً بكى الشيخ لما رآه ، أما هما عند رؤية الجمل ملقى على الأرض وقفا وصليا لله وعند اقترابهما إليه خاف وصرخ ولمس الأرض بفمه كما لو كان يسجد للقديسين . أما هما فقالا للجمل لا تخف بل قم وقف على رجلك بقوة الذي قام من الأموات يسوع المسيح إله المسيحيين ، ولما قالا هذا رفعا أعينهما إلى السماء قائلين يا إله أبينا أنبا مكاريوس اسمعنا حينما نصلي إليك يا محب البشر وفجأة وثب الجمل واقفاً على أرجله معافاً كما لو لم يكن قد سقط قط . أما الشيخ فسجد للقديسين قائلاً مبارك يسوع المسيح الساكن فيكما ، وإذ كانا ماشيين إلى المسكن معاً رأى القديس دوماديوس وجه الشيخ مملوء قذارة من وقت ماوضع تراباً على رأسه عندما سقط الجمل . فأمسك القديس دوماديوس طرف الثوب الذي عليه ومسح وجه الشيخ أما هو فبسبب ثقته الكبيرة فيهم والمعجزة التي رآها حدثت على أيديهما أمسك بيدي الطوباوي ووضعها على عينه المفقودة مثل من يأخذ بركته . فلما لمست يد القديس عينه للوقت أبصر . أما الشيخ راعي الجمال فتعجب مما حدث ليس لأنهما شفيا الجمل فقط بل ولأنه أبصر في الحال بوضع يد القديس على عينه ومجد الله جداً على العطية التي أدركته . وأمر القديسين قائلين :" احذر ألا تخبر أحدا بهذا وأيضاً قالا له لا تظن الشفاء أدركك لأجلنا لأننا نحن رجال خطاة لكن هذا حدث بقوة المسيح " . أما هو فأحضر قليل من الخبز لهما وعاد إلى مكان عمله في النطرون ولما رأى زملاؤه أن عينه مبصرة تعجبوا جداً وكانوا يسألونه كيف أبصرت ؟ . فأخبرهم هو " أن تلاميذ أنبا مكاريوس هما اللذين شفوني " . وكان كل من يسمع هذا يمجد الله . وأنا أيضاً لما سمعت بهذا الخبر بعد أن كانا قد تنيحا سألت العظيم أنبا مكاريوس كي أعرف صحة ذلك فقلت له هكذا : يا أبي القديس سمعت عن هذين القديسين الطوباويين أنهما فتحا أعين أعمى هل هذا صحيح ؟ . فقال لي نعم هذا حقيقي . فقلت أنا إني أتعجب فحقاً هذا عمل عظيم . فأجاب وقال لي يا بني ليس هذا عمل أكبر من النعمة التي نالاها من الله لأنهما استحقا أيضاً الروح التي كانت في إيليا ويوحنا . فأعطى المسيح لهما السلطان مثل رسله لأنهما لم يطلبا مجد هذا العالم الزائل بل المجد الذي كانا يرجوانه المسيح . لأنهما كانا مثل لهيب نار متألق جداً حتى الزفير الخارج من فمهما كان لهيب نار مشتعلة . حتى أنهما كانا إذا ما فتحا فمهما ليصليا كان اللهيب الخارج من فمهما مثل برق مضئ حتى يبلغ السماء ؛ وعلى كل يا إبني لا تكن غير مؤمن في كل ما سمعت عنهما . أما أنا فسجدت بين يديه المقدسة ممجداً المسيح الذي يصنع العجائب في من يفعلون مشيئته .
نياحتهما
وبعد هذا سُرت محبة البشر التي لله أن تعطي نياحاً لخادميه وينقلهما من هذا العالم الزائل وضيقاته الوقتية وأن يدخلهما إلى مواضع الراحة الروحانية المملوءة بالفرح والتهليل الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد . ففي اليوم المقدس لعيد الغطاس الذي يقع في طوبه ابتدأ الطوباوي مكسيموس أن يرقد إذ مرض وأمسكته حمى شديدة فلما تأخر في المرض قال اصنعوا المحبة وادعوا لي أنبا مكاريوس أما أنا فذهبت ودعوته ثم بعد ما غربت الشمس قال لنا كم الساعة ؟ . فأخبرناه إنها نهاية النهار . أما هو فقال " لنا بعد قليل سوف أذهب إلى موضع راحتي " . ولما كان المساء قال أبينا أنبا مكاريوس لنا أِشعلوا المصباح فأشعلناه . حينئذ أُختطفت روح الطوباوي مكسيموس إلى السماء وكان يقول " أرسل نورك وحقك يا إلهي ليهدياني إلى الطريق لأنه بالحق أؤمن أنك ستقوم سبيلي وتنقذني من سلطان الظلمة في الهواء الذي للشياطين ، أعد خطواتي في طرقك يا إلهي حتى آتي إليك بدون عائق . كن لي رجاء قوة يا يسوع إلهي لأنك أنت نوري وخلاصي فممن أخاف أنا من وجه من ؟ " . وبعد هذا سكت قليلاً ثم قال : " قوموا من هنا . هوذا الرسل والأنبياء قد أتوا ليحملوني من هنا " . ثم سكت وبعد قليل رأى أنبا مكاريوس صفوف القديسين قد أتوا نحوه وفي الحال قام أنبا مكاريوس ووقف صامتاً .
ولما رأيت المصباح بالكاد ينطفئ قلت للشيخ أنبا مكاريوس هل تريد أن أصلح المصباح ؟ . فقال كلا بل أتركه هكذا ؛ أما أنا فكنت أرجوه قائلاً اصنع محبة يا أبي واسترح على الفرو قليلاً . أما هو فأجاب تمهل يا إبني لأنه ليس وقت الكلام بل بالحري وقت السكوت . وكان الطوباوي مكسيموس يتكلم مع أحد القديسين يسأله عن أسماء القديسين الذين حوله أما نحن فلم نعلم ما كان يقول ، ولكن اللابس الروح أنبا مكاريوس أخبرنا أنهم كانوا يخبرونه بأسماء القديسين الذين حوله . ولما تهللت روحه بظهور القديسين حينئذ انطلق من الجسد بفرحٍ . هذه كانت الكيفية التي أكمل بها هذا الطوباوي سعيه بسلام وتنيح مع جميع القديسين في الرابع من شهر طوبه . فلما دفنا جسده المقدس وأتينا إلى الغد رقد أخوه الطوباوي دوماديوس وأمسكت به حمى عظيمة . ولما رأى العظيم أنبا مكاريوس أنه مرض قال لي إجلس يا إبني لكي تخدم الأخ فتأخذ بركته ؛ أما أنا فكنت أُقبل رجليه قائلاً صلي لأجلي يا أبي القديس . وفي الغد اشتد المرض على القديس دوماديوس . ولما بلغ بالليلة الثالثة رأيته متعباً فقلت له أتريد أن أدعو أبانا أنبا مكاريوس فقال نعم . فذهبت أنا ودعوته وإذ كنت ماشياً معه في الطريق وقف مدة طويلة ينظر ناحية المغارة . ثم التفت بعد ذلك ناحية المشرق . فكنت أظن أنه يصلي ولكنه كان ينظر إلى جوقة القديسين الذين كانوا يتقدمون الروح الطوباوي الذي للقديس دوماديوس ؛ فنظر إلى فوق نحو السماء وتنهد وبكى قارعاً صدره قائلاً ويلٌ لي إذ لست راهباً كليةً لأن هذان من الرهبان بالحقيقة لأنه بضيقات قليلة قد وجدا الطريق سريعاً ، أما أنا فلما رأيته يبكي هكذا تحيرت وقلت له ماذا حدث يا أبي القديس ؟ . أما هو فقال لي هيا بنا يا إبني لأن القديس دوماديوس قد تنيح . ولما دخلنا المغارة وجدناه جالساً مستنداً إلى الحائط ويداه الإثنان مبسوطتان نحو السماء . هكذا اكمل جهاده الحسن في ١٧ طوبه فأخذنا جسده المقدس ووضعناه على الفرو . وقد شهد القديس أنبا مكاريوس للأنبا ايسيذورس أن الطغمات الذين جاءوا لروح الكبير هم أيضاً الذين جاءوا لروح أخيه بينما كان هو أيضاً معهم .
ها قد أخبرتكم الطريقة التي أكملا بها هذين الطوباويين سعيهما بسيرة ملائكية وقد أحبا أتعاب الفضائل والضيقات الوقتية وقد ضبطا نفسيهما في الصبر . وقد جاهدا الجهاد الحسن سالكين طريق الفضيلة متقدمين إلى الأمام حسب قول بولس الرسول حتى صارا مع من كانا يشتاقان إليه المسيح إلهنا الحقيقي . وقد كرها مجد هذا العالم الوقتية وكل المسرات الباطلة التي سوف تضمحل حاسبين أياها كنفايات وصاروا كارهين لهذا العالم مثل سجن .
دوام ذكر الاسم المقدس الذي ليسوع
وحدث مرة حينما كنت معهما أن قلت لهما لو كنتما في القسطنطينية يا أبائي فبالتأكيد كنا نجدكما ملوكاً الآن ، ولكنهما أدارا وجهيهما وقالا لي بوداعة : أين عقلك أيها الأخ حتى قلت هذه الكلمة ، ربما بلا شك في المكان الذي ذكرته ؛ لقد قلنا لك عدة مرات يا أخ بيشوي إذا كنت جالساً معنا أو موجوداً في مسكنك تذكر اسم الخلاص الذي لسيدنا يسوع بلا انقطاع لأنه بالحقيقة لو كان هذا الاسم المقدس في قلبك لما قلت هذه الكلمة التي قلتها . من الآن انتبه جيداً ولا تهمل اسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح بل تمسك به بكل قلبك باستمرار حتى في الألم لأنه بالحقيقة إذا أهملنا هذا بالتأكيد نموت في خطايانا ؛ فلنفرغ عن الدالة والمزاح والكلمات الباطلة هذه التي تجعل الراهب يخسر كل الثمار حسب الطريقة التي تعلمناها إذ كنا لانزال في سوريا حينما كان الناس يحاولون إسعادنا ولا يتركونا نفكر في خطايانا . ولكن الغربة والسكوت بفهم واحتمال الشدائد هي خصائص معشرنا . فالشدة تلد الصلاة في طهارة والصلاة تلد خوف الله والمحبة وهذه تنشئ الرجل لأنه بالحقيقة لا جاه أو غنى أو بأس مكرمة عند الله لكن روح مقدس هي ما نبحث عنه وذبيحته وتضحيته هي خلاصنا .
أما أنا فقبلت كلماتهما بطيبة قلب وأعطيت مطانية قائلاً اغفرا لي يا أبوي وصليا لأجلي .
وبعد سنة من أيام إنتقال هذين الطوباويين ازدحمت الصحراء جداً سواء من جبل برنوج أو في المساكن المتوحدة المنتشرة في مصر ، وبالجملة فقد تمت سكنى الصحراء وبُنيت لهما كنيسة كبرى ورسموا أنبا ايسيذورس كاهناً لها وأنا أيضاً الغير مستحق جعلوني شماساً . وبعد هذه أعطى أنبا مكاريوس اسماً وامر قائلاً ادعوا هذا المكان قلاية الروميين . فأجاب ثلاثة من الشيوخ الكبار من جبل برنوج وصاروا بالقرب منا وهم أنبا بامو ، والأنبا بيهور ، والأنبا أتري وقالوا للقديس أنبا مكاريوس ألا تعلم يا أبانا أسماءهم المباركة ؟ . فقال لهم : نعم ولكن لا يجب أن ندعوا المكان باسم واحد منهما ونترك الآخر لأنه كان لهما ذات الصبر الواحد مع بعضهما البعض وأيضاً لأنهما أَخوان لذلك سوف نطلق اسميهما معاً على ذلك المكان أنه اسم الروميين بعد نياحتهما وهكذا كُتب اسميهما في المخطوطات أبوانا الروميين إلى هذا اليوم حسب ما أمره الله ؛ وقد شهد لنا أيضاً أنبا بافنوتي تلميذ أنبا مكاريوس الذي صار أباً لشيهيت من بعد : فحينما تم بناء الكنيسة أمر الله أبينا بواسطة شاروبيم نور أن ادعوا هذا المكان قلاية الروميين وأنت أيضاً اتبعني كي أريك المكان الذي سيدعى اسمك عليه وإذ سار الشاروبيم أمامه قاده إلى المنحنى الجنوبي للوادي في مكان البئر ووقف على الصخرة الغربية وصرخ له قائلاً هذا هو المكان الذي سيدعى اسمك عليه ، المكان الذي بنيته سوف يعطى للروميين إلى الأبد لأنهما أول الذين وضعت أجسادهم في هذا الجبل المقدس . وصاروا باكورة أتعابك في هذه الكرمة التي لرب الصباؤوت حيث جعلك كراماً لها ورئيساً لطائفة الرهبان المكرمة والشعب الذي يصنع إرادة الله ويجلب مراحمه على الجنس البشري بسبب فضائلهم وصلواتهم ودموعهم التي يسكبونها النهار والليل بلا انقطاع من أجل الخطاه حتى يُرجعهم الله بكل قلوبهم ويغفر لهم حسب مراحمه نحو خليقته .
شهادتهما للمسيح
هذا إذن يا آبائي القديسين ما رأيت وما سمعت فأخبرته لكم . واحذروا ألا يصدق أحد بما قلته بخصوص هذين القديسين بل اقبلوا بحرص عظيم كي لا تدفعوا عنكم ما قاله أبونا الروحاني الأنبا مكاريوس الكبير الرجل الذي يسكن الله فيه والذي يحبه الله لأجل نقاوته لأنه مكتوب ؛ إذا حضر الشيوخ لزيارة أنبا مكاريوس كان يأخذهم إلى قلايتهما قائلاً : تعالوا لننظر استشهاد الغرباء الصغار حتى أنتم أيضاً تتقدمون في الفضائل التي لهذين القديسين المباركين ولكي تؤهلوا للنصيب والميراث الذي أخذوه في الملكوت الأبدي لربنا يسوع المسيح .
انظروا العظيم أنبا مكاريوس كان يعتبرهما كشهداء حينما كان يذهب إلى القلاية مع الشيوخ ليصلوا بإيمان لأنهما كانا شهيدين باختيارهما دون سفكك دم باحتقارهما مملكة أبيهما الزائلة لأجل ملكوت السموات وخيراته وذكرى البلاط الذي نسوه والمأكولات الرفيعة بأشكال عديدة والشدائد التي احتملوها في طُرق البحر المتعبة وخطر زواحف ذلك المكان الذي قادهما الله بمعونته سائراً أمامهما حتى أوصلهما إلى جبل شيهيت إلى مكان القديس أنبا مكاريوس حيث أكملا حياتهما لأجل هذا قلت أنهما كانا شهيدين دون سيف . لأننا لو احتفظنا بذكرى سيرة آبائنا القديسين فسوف نتغير نحن أيضاً عن أعمال العلمانيين وناخذ قبساً من نور في طُرق آبائنا الطوباويين تاركين وراءنا ما قد مضى ناظرين إلى الأمام في تواضع حقيقي ومحبة مقتفين آثارهما التي لا يمكن أن تضللنا متممين أحكام المسيح يسوع ووصايا الرهبنة الملائكية التي تؤدي بنا إلى الله باستقامة وإلى الفوز بخيرات الفردوس لأن آبائنا قد وضعوا المسكن الصغير لهذين القديسين بجانبهم مثل كنيسة وكانوا يذهبون إليه من حين لآخر ويصلون فيه بإيمان وكثيرون من المرضى المثقلين بأجسادهم وأرواحهم سواء من شيهيت أو من جبل برنوج أو من أي مكان آخر كانوا إذا حضروا إلى مكان استشهادهما وصلوا ينالون الشفاء في الحال بنعمة سيدنا يسوع المسيح الذي يعطي الشفاء للمرضى سواء مرضى الجسد أو الروح بشفاعات آبائنا القديسين الروميين مكسيموس ودوماديوس لدى مخلص الجميع سيدنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي يليق به كل مجد وكل إكرام وكل سجود مع الآب والروح القدس المحيي المساوي معه الآن وإلى دهر الدهور آمين
لقراءة الجزء الأول القديسين الروميين مكسيموس ودوماديوس
أقرأ أيضا سيرة القوي الأنبا موسى الأسود
0 تعليقات