الأنبا بولا أول السواح

الأنبا بولا أول السواح

كان لهذا القديس أخ أكبر اسمه بطرس، وقد ورثا عن أبيهما ثروةً طائلة ، وأراد بطرس أن يأخذ ثلثي الميراث ويعطي لأخيه الثلث، فرفض أخوه هذا الظلم وطلب أن يذهبا إلى القاضي ، وكان عمره حينئذ خمسة عشر عاما .
وفي الطريق إلى القاضي وجدا جنازةً كبيرةً، فسأل بولس (أنبا بولا) عن هذا الميت الذي يودعه وينوح عليه الكثيرون هكذا ، فعلم أنه كان رجلاً غنياً جداً ، وها هم يخرجونه اليوم من العالم تاركًا كل ممتلكاته ، كما أنه مات غارقًا في خطاياه !
فلما سمع بولس ذلك انتبه إلى نفسه وانكشفت له حقيقة العالم فصار أمامه كلا شيء.

فقال لأخيه: “ارجع بنا يا أخي .” فتعجب أخوه ، وبينما هما في طريق رجوعهما إلى البيت توارى بولس عن أخيه ولم يعلم كيف اختفى . فأرسل بطرس منادياً ينادي عليه ثلاثة أيام في المدينة و لما لم يجده، مزق ثيابه وحزن عليه زماناً طويلاً .
أما بولس فقد وجد مقبرةً في غربي المدينة فأقام فيها ثلاثة أيام يصلِّي بتضرعٍ إلى الله ، وفي اليوم الرابع أرسل الله إليه ملاكًا مضى معه إلى موضعٍ فيه عين ماء وبقربها نخلة.
وهناك وجد مغارةً عاش فيها، وصنع لنفسه ثوباً من الليف، وانفرد هناك حتى اليوم الذ ي سلَّم فيه روحه بيد الرب ، إذ إنه طلب من الرب أن يخلِّصه من يد العدو في هذا المكان
المقفر ويقويه حتى يكمل سعيه مرضيًا أمامه إلى اليوم الذي يقف فيه بين يديه. 
كان في ذلك الوقت أنبا أنطونيوس في سن التسعين من عمره يعيش في نفس البرية ، وخطر له يوم أنه أول من سكن في البرية ، فأتاه صوت من السماء قائلاً : هوذا واحد يسكن في البرية وهو مختار بالأكثر ، وهذا العالم كله لا يستحق موطئ إحدى قدميه ، ولأجله يبارك الله الأرض فتعط ثمرها .
فلما سمع أنبا أنطونيوس ذلك قال: حي هو إلهي ومبارك ، إنني لا أرجع حتى أنظر هذا القديس. 
إعتمد هذا الأب الوقور على الرب، وقام في شيخوخته هذه وسار متوكئًا على عكّازه دون أن يعلم إلى أين يذهب ، ولكنه توغّل في الجبل نحو المشرق حتى وصل إلى وادٍ عميقٍ (كان يدعى "بحيرة مريم" ) ، وهناك حاولت الشياطين أن ترعبه بمناظر وحوش أو شعلات نار صاعدةً إلى السحاب، ولكنه تمسك بعلامة الخلاص التي عندما كان يرشم بها ذاته كانت تختفي هذه المناظر من أمامه .
وعند غروب الشمس رأى على الأرض أثر إنسان (جرة القدمين) مع آثار وحوش
كثيرة، فقال : “الآن علمت أن الرب لم يترك عبده”، وسار على أثر القديس حتى وصل إلى مغارة الشيخ الطوباوي، وعند بابها سمع القديس بولا يصلِّي، ثم لما سمع حركة إنسان دحرج حجرًا كبيرًا على باب المغارة، ولكن أنبا أنطونيوس إرتمى على الأرض عند الباب قائلاً: 
“أنت تعرف من أنا ومِن أين ولماذا أتيت! 
وأنا لست مستحقًا أن أتطلَّع إليك، إلاّ أنني إن لم أراك فلن أرجع أبدًا.
 ها أنت تستضيف الوحوش، فلماذا لا تستضيف إنسانًا؟!
لقد سألت فأُعِطَي لي، طلبت فوجدت ، وها أنا أقرع لعله يفتح لي.
 ولكنني إن لم أُفلح فسأموت هنا على عتبة مسكنك، وحينئذ لا أشك أنك ستدفنني .”
فأجاب القديس من الداخل: “لا يجب على السائل أن يلح في طلب الأمور التي يسعى إليها، ولا يضيق صدره”. 
ثم فتح له، وقبلا بعضهما بعضًا، وصلَّيا وجلسا، فسأله أنبا
أنطونيوس عن اسمه ، فأجابه الطوباوي: “إن كنت لا تعرف اسمي فلماذا تتعب نفسك بالسير في هذه البرية ؟ 
فاغتبط أنبا أنطونيوس وقال: “طوبى لي إذ استحققت أن أُبصر بولس الثاني”.
 فسأله الطوباوي: “هل الأمور في العالم تجري على ما يرام”؟ 
فقال له: “نعم”.
 ثم قال أنبا بولا: “ها هو الرجل الذي بحثت عنه بتعبٍ كثير، قد تداعت قدماه من الشيخوخة، وشعيراته البيضاء قد تساقطت. ها أنت ترى أمامك إنسانًا سيصير بعد قليل ترابًا، ولكن المحبة تحتمل كل شيء...” .
ثم سأله أنبا أنطونيوس: “عرفني يا أبي، هل سيكثر هذا الإسكيم على الأرض أم لا ؟ ”
فابتسم الطوباوي ثم تنهد وقال: “إن هذه الجبال ستعمر مثل أبراج الحمام، ويجمع الله مختاريه من كل موضع ويفرحون كما هو مكتوب، وينقلهم الله قبل الغضب، ثم يقوم بعدهم جيلٌ لا يطيع لمن يسهرون على نفوسهم. حينئذ يغضب الله بسبب العصيان وتصبح الجبال خرابًا لمدةٍ من الزمن، لكن تذكار القديسين لا ينقضي، وقد يتخلُّون عنه ويقولون ليس في هذا خير، وقد يتركون الإسكيم عنهم والتعبد ويرجعون إلى الوراء لأنهم لم يذوقوا حلاوة محبة الله ولم يصبروا لها لأنه مكتوب إنه بصبركم تقتنون أنفسكم ( لو:٢١ ١٩)، وهكذا يجولون في المدن ويخرجون من وسط حظيرة الخراف، ويدفعون ذواتهم للذئاب ، ويتركون مواضع تسبيح الله ، ويقيمون في المواضع التي لا ينبغي ذكرها ويحبوها ويسكنوها، لأنهم لا يقبلون تعاليم آبائهم ... فقوم يكرمونهم وقوم يعثرون لضعف حكمتهم ومعرفتهم ... لكن الله يضع في قلوب قوم آخرين أن يسكنوا في الجبال دفعةً أخرى ويدوسون الشيطان تحت أقدامهم ، ويشنون الحرب الروحية ضده،
ويجاهدون فيأخذون أكاليل الغلبة والانتصار .”

وبينما كان القديسان يتحدثان إذ بغرابٍ قد جاء وفي فمه خبزة وضعها عند باب المغارة. فقال أنبا بولا: “الآن علمت أنك من جنود المسيح، لأنّ لي هنا اليوم ثمانين سنة
وفي كل يوم يأتيني غراب بنصف خبزة،ٍ وها هو اليوم يأتينا بخبزةٍ كاملةٍ لكلينا لسد حاجة الجسد الذي هو كالفرس، إذا أشبعته لا يمكنك أن تكبح جماحه، وإذا تركته بلا طعام لا يقدر أن يعمل ما يجب أن يعمله .”
ثم قاما وصلَّيا وسبحا الله، ثم جلسا ليأكلا، ولكن طال النقاش بينهما في من منهما هو الذي يكسر الخبزة، فأنبا بولا كان يتمسك من وجهة نظره بأصول الضيافة، وأنبا أنطونيوس تمسك بكبر سن مضيفه، وأخيرًا اتفقا على أن يمسك كلٌّ منهما الخبزة ويقسماها في نفس الوقت، ثم شربا من ماء الينبوع، وقاما يسبحان الله حتى مطلع الفجر .
ثم قال أنبا أنطونيوس لأنبا بولا: “مباركةٌ هي الساعة التي فيها استحققت أن أرى وجهك يا أبي القديس”. 
فقال له أنبا بولا: “لقد عرفت منذ مدة - - أيها الأخ أنك
تقيم في تلك المنطقة، وقد وعدني الله منذ مدة طويلة أن تصير لي زميلاً في الخدمة، ولكن زمان رقادي الآن قد صار وشيكًا. لقد اشتقت منذ زمانٍ أن أنحلّ وأكون مع المسيح،
وقد انتهى سعيي، وهناك قد أُعِد لي إكليل البر، لذلك فقد أرسلك الرب لكي تثوي جسدي المسكين في الأرض، نعم ليعود التراب إلى التراب .”
فلما سمع أنبا أنطونيوس ذلك بكى وقال: “يا أبي إنني لم أشبع من الوجود في حضرتك! أتوسل إليك ألاّ تتركني بل خذني معك”. 
فأجابه أنبا بولا: “لا تبحث عن ما هو صالحٌ لك بل عن صالح غيرك. إنه صالحٌ لك أن تطرح ثقل هذا الجسد وتتبع حمل
الله، ولكن من الصالح لبقية الإخوة أن يقتدوا بك. والآن اذهب إلى مسكنك وأحضر الحُلّة التي أعطاها لك الأسقف أثناسيوس لتكفِّن بها جسدي .”
فتعجب أنبا أنطونيوس من كلامه عن حلّة البطريرك وكيف علم بها، وآمن أنه تكلّم بروح النبوة! ثم حثّه أنبا بولا قائلاً: “أسرع ولا تقف بل امضِ سريعًا لأنّ زمان انحلالي قد قرب، وهكذا الأمر هو محتوم على كل الناس .”
سار أنبا أنطونيوس في الجبل يومين حتى بلغ مسكنه منهكًا بسبب شيخوخته، ولما رآه أبرآم
أحد تلاميذه قال له: “يا أبي أين كنت ، فلي ستة أيام لم أبصرك”؟
 وكان أنبا أنطونيوس قلقًا جدًا، فقال: “للكلام وقت وللسكوت وقت“ ( جا:٣ ٧). 
ثم أخذ حلّة البطريرك وخرج ومعه كسرة خبز، فسأله الأخ عما إذا كان يريد أن يمضي هو معه، فقال: .”لا“

عاد أنبا أنطونيوس من نفس الطريق التي جاء منها مشتاقًا إلى رؤية أنبا بولا قبل أن يسلِّم روحه للمسيح ، ولكنه في طريقه رأى جماعة ملائكة وفي وسطهم القديس بولا
وهم يصعدون به ويسبحون قائلين :
“السلام للقائك بالقديسين يا بولس رجل الله. 
تتهلل الملائكة معك. إنك ستفرح في السموات. 
تركت عنك الظلمة وانطلقت إلى فردوس النعيم. 
تركت عنك الحزن إلى الفرح الذي ليس له انقضاء .
تركت عنك البكاء وستمضي إلى الفرح الأبدي.
لأنك صرت مطوباً في جيلك، وذكرك على ممر الأجيال .
أنت رجل الله، طوباك ثم طوباك .”

وفي الحال سقط أنبا أنطونيوس على وجهه وألقى بالرمال على رأسه باكياً نائحًا.
 ولما وصل إلى مغارة القديس وجده ساجدًا ويداه مبسوطتان كالصليب ، فسجد مثله بجانبه
ظانًا أنه حي ، فلما مضى وقتٍ ولم يسمع له صوتًا ولا تنهدات علم أن هذا هو الجسد فقط، فارتمى عليه باكيًا، وبسط الجسد قائلاً: “يا أبي اُذكرني في المساكن العلوية التي ذهبت إليها .”
ثم كفَّن الجسد ولفّه بحلّة البابا أثناسيوس كما طلب القديس، وأثناء ذلك كان يرتل التسابيح والمزامير حسب التقليد. ثم جلس يفكِّر كيف يدفنه لأنه لم يتذكَّر أن يحضر معه ما يحفر به الأرض، وقال في نفسه: “ماذا أفعل؟ لا أقدر أن أمضي وأتركه”. وبينما هو يفكِّر إذ بأسدين قد دخلا المغارة وسجدا عند جسد القديس، فقلق أنبا أنطونيوس من منظرهما ، ولكنه لما رفع أفكاره إلى االله زال منه الخوف، ثم ظلاَّ يلعقان قدميه كأنما يسألان أين يحفران، فعلم الشيخ إشارتهما وهما يومئان إليه بأرجلهما، فقام وقاس طول الجسد وحدد لهما الأرض داخل المغارة ، فحفر الأسدان أحدهما عند الرأس والآخر عند الرجلين حتى أتمّا حفر المقبرة التي تسع جسد القديس تمامًا، فأشار إليهما الشيخ بأن يكُفّا ، فطلع كل منهما من الحفرة وسجدا برأسيهما أمام أنبا أنطونيوس كأنما يستأذنان، ثم خرجا .
ثم حمل أنبا أنطونيوس جسد القديس بولا وأودعه في القبر وغطّاه بالرمال، وقبل أن يرحل أخذ معه فراش القديس والثوب الليف الذي كان عليه ، ووضع علامةً على موضع دفن الجسد.
 ولما عاد قص كل شيءٍ على تلاميذه.
ثم سافر أنبا أنطونيوس إلى الإسكندرية وقابل البابا القديس أثناسيوس الرسولي وعرفه بجميع هذه الأمور.
ثم أعطى للبطريرك الثوب الليف الذي تركه الطوباوي بولا، وظلّ البابا يلبسه ثلاث مرات في السنة ( هي: أعياد الغطاس والقيامة والعنصرة )
ثم أرسل البابا أنبا أنطونيوس ومعه كهنة ليحملوا إليه جسد أنبا بولا لكي يضعه بجوار القديس أنيانوس الذي خلّف مار مرقس على كرسي الإسكندرية، فلما ذهبوا إلى الموضع
الذي دُفن فيه أنبا بولا ظلوا يبحثون عنه في الجبل لمدة يومين فلم يجدوه. وظهرت للبابا أثناسيوس رؤيا يقول له فيها القديس أنبا بولا: “أرجِع الرجال الذين أرسلتهم، فليست إرادة الله أن يرى جسدي أحد من الناس”، فأرسل البابا ناسكًا اسمه “أولوجيوس ” الذي اقتفى أثرهم في الجبل وأخبرهم بكلام البطريرك، فرجعوا إلى المدينة متعجبين مما كان .
وكتب البابا أثناسيوس سيرة القديس بولا ووضعها في كنيسة الإسكندرية، فكانت تقرأ لكل من يريد الرهبنة لكي يمتلئ غيرةً .
وقال القديس أثناسيوس “ : كان بمدينة الإسكندرية صبي يدعى "ألادنس "، مرض ومات، وصدقوني أيها الشعب المحب الله إني أنا أثناسيوس أخذت الثوب الليف الذي
للقديس أنبا بولا ووضعته عليه فقام في الحال. وإنّ شهادة اثنين أو ثلاثة هي حق :
أنا أثناسيوس أشهد أني أبصرت هذا برؤيا العين .
أنا ألكسندروس الأسقف أشهد بصحة هذا القول .
أنا أنطوني أول القسوس أشهد أيضاً بهذه المعجزة .

إرسال تعليق

0 تعليقات