Ad Code

سيرة القديس العظيم الأنبا أنطونيوس أب الرهبان


أطال القديس البابا أثناسيوس الرسولي في وصف شخصية الأنبا أنطونيوس في كتابه " حياة أنطونيوس vita Antonio " وكتب بلاديوس ( أسقف هيلينوبوليس في بيثينية في أواخر القرن الرابع) الذي وضع تاريخ الأباء المصريين ( بستان الرهبان ) يقول عنه " كان ذا عقلية وقادة حكيماً يدرك حقيقة الناس بالفراسة بحيث كان الذين يأتون إليه يمتلئون دهشة إذ يجدون أنه أدركهم على حقيقتهم رغم عزلته وابتعاده عن الناس ، وكان حديثه مطعماً بملح سماوي بحيث كان سامعوه يشعرون بغبطة قلبه ولا يحسدونه على ما وصل إليه من كمال روحي حبب فيه النفوس وقرب إليه القلوب كذلك كان الأنبا أنطونيوس يمتاز بالصبر والجلد في المناقشة فيصغي لكل ما يقال له ويجيب بكل تؤدة ( تأن) وإتزان فلا عجب إذا قيل إن الله أقامه طبيباً روحياً لأبناء وطنه ولجميع الملتفين حوله " .
ويعتبره العالم أب جميع الرهبان ومؤسس الرهبنة في العالم أجمع بالرغم من محاولات سابقة له لكنها لم تأخذ الشكل أو النظام الذي تبعه الأنبا أنطونيوس وتلاميذه من بعده ، كما أنه كان مرشد في طريق الرهبنة لكبار قادة ومؤسسي الحركات الرهبانية في الشرق والغرب وكثيرين أشتاقوا للحياة الرهبانية بعد سماعهم سيرة العظيم الأنبا أنطونيوس ، وتوضح حياته أصالة اتجاهه المسيحي في تطبيق وصايا الأنجيل. 

نشأته 

ولد الطوباوي أنطونيوس (أنطوني) سنة ٢٥١ م ببلدة ( كونا) " قمن العروس " التي لازالت تحمل نفس الاسم " قِمن " إلى الآن بمركز الواسطى - محافظة بني سويف . من أبوين مسيحيين غنيين ، يبدو أنه لم ينل قسطاً وافراً من علوم عصره وخصوصاً اللغة اليونانية التي كانت منتشرة آنذاك أو الثقافة الهللينية ولكنه لم يكن أمياً بأي حال من الأحوال إذ أنه تعلم اللغة القبطية وعلوم الكنيسة في بيته من أبويه وحين كان صبياً كان محب للوحدة لم يكف عن تعلم الكتابة وكان مهتماً بالقراءة العلنية ( في الكنيسة ) وظل مصرياً صميماً في طبعه وفي تفكيره . وفي سن الثامنة عشرة تقريباً إنتقل والده " يحنس " فدخل إليه وتأمل جثمانه المسجى ( الموضوع استعداداً لدفنه) وبعد تفكير عميق قال : تبارك اسم ألله أليست هذه الجثة كاملة ولم يتغير منها شيء البتة سوى توقف هذا النفس الضعيف فأين هي همتك وعزيمتك وأمرك وسطوتك العظيمة وجمعك للمال إني أرى الجميع قد بطل وتركته .. فيالهذه الحسرة العظيمة والخسارة الجسيمة . ثم نظر إلى والده الميت قائلاً " إن كنت أنت قد خرجت بغير اختيارك فلا أعجبن من ذلك بل أعجب أنا من نفسي إن عملت كعملك " .
كان كثير التردد على الكنيسة يحب طقوسها وألحانها ويحفظ عن ظهر قلب الكثير من الكتب المقدسة.  وعند دخوله الكنيسة ذات مرة بعد وفاة والده إستوقفه فصل الأنجيل الذي كان يُقرأ وفيه يقول الرب للشاب الغني " إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني " ( مت ١٩ : ٢١ ) . أحس الشاب أنطونيوس أن هذه الوصية موجهة له هو شخصياً وليس فقط لكل الناس.  خرج من الكنيسة عاقداً العزم على تنفيذ الوصية حرفياً . وبعد مدة انتقلت أمه " جيوش " ، وكان وقتذاك له من العمر نحو عشرون عاماً . وقد ترك له والداه ثروة طائلة عبارة عن ثلاثمائة فدان من الأرض الخصبة وبقراً وغنماً كثيراً ما يساوي أربعين ألف ديناراً . وتركا له أختاً وحيدة تصغره بنحو ثماني سنوات تدعى " ديوس " . فكر أنطونيوس في أخته وكيف يرعاها ولمن يتركها وحينما دخل الكنيسة مرة أخرى سمع قول الأنجيل " لا تهتموا بالغد لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره " ( مت ٦ : ٣٤ ) ، فخرج ليسرع في تنفيذ الوصية الأولى والثانية عملياً فوزع أملاكه على الفقراء والمحتاجين بعد أن أبقى جزءاً لأخته التي أودعها بيتاً من بيوت العذارى وصار أنطونيوس حراً مكرساً حياته كلها للنسك تحت إرشاد رجل قديس يعيش على حافة القرية . وكان كالنحلة النشيطة يجول في أطراف القرية لدى شيوخها وقديسيها يتشرب منهم الفضائل .

جهاده الروحي وحروب الشياطين له  
- يصف القديس اثناسيوس حروب الشياطين على أنبا أنطونيوس هكذا :- أما إبليس الكاره كل خير فلم يطق أن يرى مثل هذه التقدمة الحديثة وأخذ يفكر بأي وسيلة يعطل بها هذا العمل،  في البداية حاول أن يشتته عن تداريبه بأفكار عن ثروته ، والقلق على أخته الصغيرة " ديوس " وقد انتصر على كل هذه الأفكار وعلى أفكار محبة المال والشهرة والتلذذ بالراحة وبحياة سهلة في ظل أمواله الطائلة التي تركها له والداه ، والنتيجة من المشقة من أجل العفة ، والمعاناة الشديدة التي سيكون فيها ، وتكرار سجوده الذي أضعف جسده . وبالاجمال كثيرا ما كان يجمع غبار أفكاره في عقل القديس أنطونيوس راغبا أن يمنعه من تصميمه الصادق ، وأخيراً إعتمد على شراكه التي ينصبها للشبان، وهاجم الشاب وأزعجه ليلاً وضايقه نهاراً . وكان يثيره بأحلام ورؤى نجسة،  ويُشوش عليه في صلواته بأفكار مُخجلة وصعبة ، وفي إحدى الليالي اتخذ الشيطان شكل امراءة وقلَّد كل حركاتها لإغواء القديس ، لكن تفكيره بعمق في المسيح وفي روحانية النفس أطفأ جمر خداع العدو . وحين كان العدو يُسهل له اللذة كان القديس يغضب عليه إذ كان يُفكر بعمق في التهديد بالنار والدود الذي لا يموت ، فجاز التجربة دون أن يُمس بأذى .
كل هذا أخزى العدو الذي كان يعتبر نفسه كإله هزأ به شابٌ ، وذاك الذي افتخر على اللحم والدم اضطر أن يهرب أمام إنسان في الجسد ، لأن الرب الذي من أجلنا أخذ جسداً وهب الجسد نُصرة على إبليس حتى يستطيع كل من يحارب بإخلاص أن يقول " وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي."  ( كو١ 10:15) .
في النهاية لما عجز التنين عن غلبة أنطونيوس صرَّ على أسنانه وظهر لأنطونيوس متخذاً شكلاً منظوراً على هيئة ولد أسود وكان يجز على أسنانه ويصرخ صراخ مُفجع بحدة ولكن أنطونيوس العارف بالأمور قال من أنت يا من تقف بقربي وتقول هذه الأقوال ؟! . وللوقت أبعد عنه هذا الصراخ الفاجع وتكلم بصوت بشري أسيف وقال " أنا صديق الزنى ، وقد التحفتُ بالإغراءات التي تدفع الشبان إلى الزنى ، أنا أُدعى روح الشهوة ، كم خدعت كثيرين ممن أرادوا أن يعيشوا بالطهارة وما أكثر العفيفين الذين أقنعتهم بإغراءاتي ، أنا موجود بحسب توبيخ النبي " لأَنَّ رُوحَ الزِّنَى قَدْ أَضَلَّهُمْ " هو 12:4 لأنهم بي قد أُعثروا ، أنا الذي ضايقتك كثيرا وغُلبت منك كثيرا . " أما أنطونيوس فإذ قدم الشكر للرب قال له بكل شجاعة :- إذاً فأنت حقيرٌ جداً لأن الظلمة تغطي عقلك وضعيف كطفل فمن الآن وصاعداً لن يكون لدي اهتمام بك لأن  " الرَّبُّ لِي بَيْنَ مُعِينِيَّ، وَأَنَا سَأَرَى بِأَعْدَائِي." مز 7:118 ، وذلك الأسود عندما سمع هذا انحنى وفر بصراخ مخيف غير متجاسر على الاقتراب من الرجل .
هذه أول عطية صارت لأنطونيوس من المخلص والتي تحولت بأنطونيوس إلى النجاح والازدهار ، لكن أنطونيوس وإن كان لم يسقط تحت إبليس بل تجاهله واحتقره ، علِم أن العدو لم يسلم بالهزيمة بل يترصد له ملتمساً أي علة ضده ، وإذ كان أنطونيوس قد تعلم الكثير من الكتب عن مكائد العدو استعمل القوة في تدريباته متفكراً أنه إذا لم ينجح الشيطان أن يخدع قلبه بلذة جسدية فسيحاول أن ينصب له شركاً بوسائل أخرى ، فتمسك بإخضاع الجسد وقرر من الآن وصاعداً أن يتعود على السلوك بصرامة مع نفسه . لئلا ينتصر عليه العدو في مرات أخرى بأي طريقة ويسحبه لأسفل،  وكان يتمرس في أن يظل أمينا في ممارساته إذ كان يسهر كثيرا، وفي مرات كثيرة كان يواصل الليل كله بدون نوم ، وذلك لم يكن مرة واحدة بل كثيرا وبطرق يندهش لها أي أحد ، وكان يأكل مرة واحدة في اليوم بعد غروب الشمس وأحيانا كان يأكل كل يومين ، ومرات كثيرة كل أربعة أيام،  وكان طعامه من الخبز والملح وكان يشرب الماء فقط ، وعند النوم كان يرقد على الأرض وكان يتغطى بالخوص أو القش ، وكان يرفض أن يدهن نفسه بزيت الزيتون ( يقصد الصابون ) قائلًا هو مناسب بالأحرى للصغار ، وبنشاط كان يتمم كل تداريبه غير مهتما براحة الجسد عالما أنه عندما تضعف شهوات الجسد حينئذ نستطيع أن نضبط النفس ، وكان يعمل كل هذا برغبة شديدة وتصميم ولم يكن متفكرا في كم قضى من الوقت ليتم كل تداريبه بل كان يبذل كل الجهد ليؤسس نفسه في الفضيلة كنوع من تكريس نفسه الذي يجب أن يظهره لله بقلب طاهر وبالأستعداد للخضوع لمشيئته وليس لأحد أخر ، وكان يقول أن الناسك متى أحب أن يستفيد من سيرة إيليا العظيم يجب أن ينظر دائما إلى حياته كما في مرآة .

- سكناه في المقابر 

ثم قرر بعد ذلك أن يرتحل بعيدا عن قريته حتى وصل إلى القبور وأوصى شخصاً مُلماً بالمكان أن يُحضر له ما يقتات به ، أما هو فقد دخل إلى أحد هذه القبور وأغلق بابها على نفسه وظل منفردا بداخلها ، وساعتها لم يحتمل العدو ، وأخافه كثيرا من استمراره بالقرب من هذا المكان المُوحش ، وفي مرة ليلاً اقترب منه جمهرة من الشياطين وضربوه ضرباً مبرحا بجروح كثيرة ، ووجد نفسه ملقى على الأرض غير قادر على الكلام بسبب الوجع الشديد. 
وأنطونيوس نفسه أكد أن الآلام كانت شديدة حتى أن ضربات الإنسان ، كما يقول ، لا تسبب ألماً لا يحتمل مثل هذا ، وبعناية من الرب الذي لم يهمل رجاءه فيه ، حضر الشخص الذي يأتيه بالخبز ، وفتح الباب ورآه راقداً على الأرض مثل جثة هامدة ، فحمله إلى الكنيسة التي في القرية ووضعه على الأرض.  والكثير من أهل القرية وأقاربه جلسوا بجواره وكأنهم بجوار جثة ميت .
وفي منتصف الليل عاد أنطونيوس إلى نفسه واستيقظ ، ورأى الكل نياماً ما عدا صاحبه وطلب منه أن يحمله خفية إلى القبور بدون أن يوقظ أحداً ، وحمله الرجل إلى المقبرة وأغلق عليه الباب ، وبقى وحده في الداخل ، والحقيقة أنه ثابر ولكنه لم يكن بصحة جيدة بسبب الجروح لذلك كان يصلي وهو مُستلقي ، وبعدما أنهى الصلاة صاح قائلًا " أنا أنطونيوس موجود في هذا المكان ولن أهرب من ضرباتكم ولو عملتم بي أكثر من ذلك ، فلا شيء سيفصلني عن محبة المسيح وكان يتشجع ويتقوى بترتيل المزامير قائلاً " الرب نوري وخلاصي ممن أخاف الرب عاضد حياتي ممن أرتعب ؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي وإن قام عليّ قتال ففي هذا أنا مطمئن " ، " فليقم الله وليتبدد جميع أعدائه وليهرب من أمام وجهه كل مبغضي أسمه القدوس " .  وفكر في قلبه أن يزيد من تداريبه وبقوله هذا جعل العدو يتعجب من شجاعته ويقرر زيادة الحرب عليه بعدما تجرأ بالأكثر عليهم ، وبالفعل أثناء الليل أحدثوا صوتاً عظيماً مثل الزلزال وتشققت الجدران الأربعة للحجرة الصغيرة بواسطة الأبالسة،  ودفعوا أنفسهم بغتة إلى داخل الحجرة وغيروا أشكالهم بشبه وحوش وثعابين بعدد كبير وامتلأ المكان بعدد ضخم من الأسود والدببة والنمور والثيران والأفاعي السامة والعقارب والذئاب،  وكل واحد من هؤلاء كان يتصرف وفق طبيعته ، فالأسد يصر بأسنانه مزمجراً يريد أن ينقض عليه ويمزقه،  والثور يتحضر مستعدا ليضربه بقرنيه ، والثعبان يزحف مسرعاً نحوه ولكن لا يصل إليه ، والعقارب انتشرت في كل مكان في الحجرة ، والذئب يُكشر عن أنيابه يقترب إليه ليفترسه ، وكلهم كانوا يصدر منهم في نفس الوقت أصواتا مزعجة ومخيفة ويظهرون غضباً مخيفاً على أنطونيوس ، الذي كان يصارعهم بكل قوته رغم جراحاته الكثيرة ، ولم يكن خائفاً منهم بل كان ضابطاً نفسه بوعي تام لكل ما يجري حوله ، وكان يهزأ بهم بقوله :" لو كانت فيكم أي قوة لأظهرتموها وأبعدتموني عن وحدتي ، وبسبب بعدكم عن الرب تشبهتم بأشكال الوحوش غير الناطقة وبأعداد كثيرة لعلكم تخيفونني ، وأنا عارف ضعفكم ، فلو كان لكم سلطان عليَّ لوصلتم إليَّ ، وهذا لم يحدث ، فإذا عدم مقدرتكم على الوصول إليَّ جعلت ما أزعجتموني به باطلاً وبلا جدوى ، وذلك لأننا ممتلئين من الثقة والرجاء بالرب ، وبالتالي حين تجمهركم ومحاولاتكم الكثيرة للإعتداء عليَّ وصراخكم بحدة فأنتم تسخرون من أنفسكم وليس العكس " .
والرب لم يترك أنطونيوس طويلاً بل أسرع إلى معونته ، إذ أعاد النظر فرأى سقف الحجرة كأنه انفتح وشعاع من النور نزل عليه . والأبالسة اختفوا فجأة ، وألم جسده توقف في الحال ، ووجد الحجرة سليمة . ففهم أنطونيوس أن النعمة أدركته ، ومن نشوة النور الذي أحاط به قال :- أين كنت ؟ ولما لم تظهر من البدء لتخفف الآمي؟ .
فصار صوت نحوه قائلًا: يا أنطونيوس اجلس هنا ، وستراني محيط بك دائما ، وبسبب مثابرتك وعدم تقصيرك فسوف تدركك المعونة باستمرار ، وبعملك هذا سيصير لك اسماً في كل مكان .
بعد هذا شعر أن تيار قوة يفيض من جسده أكثر مما سبق ، وكان عمره في ذلك الوقت ٣٥ سنة  .

- سكناه في حصن قديم 
بعدما تحقق القديس من لذة الحياة النسكية وجمال الوحدة والسكون صار مشتاقا للتوغل داخل الصحراء والإلقاء بنفسه داخل أحضان المسيح أكثر ، فانطلق إلى الشيخ الذي كان يسلك بإرشاده قديما يرجوه الإنتقال معه للسكنى في الصحراء ، لكنه رفض بسبب كبر سنه ، كما أنه كان أمر غير مألوف في تلك الآونة ، فتركه وتوجه إلى القفر شرقي النيل وتعمق في البرية وهو لا يدري أين يلقي عصا الترحال ، وعندما رأى العدو جديته تمنى أن يُعيقه عن هذه الرغبة ، فألقى في طريقه قطع كثيرة من النقود كانت تلمع أكثر من النار ، لكن أنطونيوس بفطنته أدرك أنها حيلة من عدو الخير ونظر إلى النقود ووبخ إبليس قائلًا: من أين جئت بهذه النقود في البرية ؟ ولم يوجد في الطريق أثار أقدام مسافرين ، ولم ينظر للنقود ولم يعرها انتباهاً ، وحاول إبليس أن يُصعب عليه أمر دخوله البرية ، وما الجدوى من كل هذا البعد في البراري ، فلم يفلح أيضا، ثم اختفت النقود الكثيرة التي كانت موجودة ، فقال له القديس لتكن فضتك معك للهلاك ، وازداد تصميماً واتجه بسرعة نحو الجبل فوجد منطقة يكتنفها الهدوء هي منطقة بسبير pispir ( مكانها حالياً دير الميمون في منتصف المسافة بين أطفيح وبني سويف تقريباً وتسمى هذه المنطقة حالياً دير الجميزة أو دير الميمون أو دير الأنبا أنطونيوس التحتاني ) . وفي الطريق حصن مهجور منذ زمن الفراعين ومملؤا بالثعابين،  فعبر إليه وسكن فيه ، وفي الحال هربت الثعابين . واختزن خبزاً لمدة ستة شهور ( كما كانت عادة الطيبيون الذين كثيرا ما حفظوا الخبز سليما لمدة سنة كاملة ) ولأن الماء كان متوفرا داخله فقد أقام متوحدا فيه لا يخرج لزيارة أحد ولا يرى أحد من الذين يزورونه وكان يقبل الخبز مرتين في السنة من السقف .
وهؤلاء الذين كانوا يعرفونه قبلاً كانوا يأتون إليه ، ولكن لم يدخلوا إليه بل كانوا يقفون في الخارج، هؤلاء كانوا يسمعون أصوات تشبه الضجة . وأصوات تكسير صادرة من الداخل وأصوات نواح كأنها تأتي من بعيد ، وأصوات صراخ تقول :" إرحل عنا ، لماذا أنت هنا في البرية ؟ لن تحتمل مؤمراتنا " ، في البداية كانوا يظنون أن جماعة من الناس دخلت بواسطة السلالم ( كسلالم الإطفاء) وأخذوا في العراك معه ، والبعض منهم انحنوا لينظروا من خلال ثقب ، حينئذ رأوا أرواح شريرة فأرتعبوا ونادوا على أنطونيوس. 
ولما سمعهم تقدم على مقربة من الباب ونصحهم بأن يرحلوا ولا يخافوا ، وقال إن أعمال الأرواح الشريرة كثيرة ضد الذين يخافون منهم ، لذلك أرسموا أشارة الصليب وأذهبوا بشجاعة واتركوا هؤلاء يضحكون على أنفسهم. 
ولكن هؤلاء الناس الذين يعرفونه كانوا يبكون لأنهم توقعوا أن يجدوا جثته ، ولكنهم سمعوه يرنم " يَقُومُ اللهُ. يَتَبَدَّدُ أَعْدَاؤُهُ وَيَهْرُبُ مُبْغِضُوهُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ. كَمَا يُذْرَى الدُّخَانُ تُذْرِيهِمْ. كَمَا يَذُوبُ الشَّمَعُ قُدَّامَ النَّارِ يَبِيدُ الأَشْرَارُ قُدَّامَ اللهِ.مز 2-1 : 68 وأيضا : كُلُّ الأُمَمِ أَحَاطُوا بِي. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ.مز 10:118 .
وانقضت عشرون سنة أقام فيها متوحدا لم يخرج فيها ولم يراه أحدا ، كان فيها يمارس تداريبه ونسكياته ويضفر الخوص ، حينئذ كان خبر قداسته قد شاع في كل مكان فصار الناس يبادرون إليه بعضهم لسماع تعاليمه وبعضهم لنوال الشفاء من أمراضهم،  أما هو فلم يكن يرغب الخروج من الحصن فاستمروا يطلبونه وهو يمتنع حتى كادوا يكسرون عليه الباب ، وإنك لتعجب مما صار إليه جسده من تعوده الجهادات ، لم يكن سمينا بسبب عدم الحركة الكثيرة،  ولم يكن هزيلاً بسبب كثرة الأصوام والنزاع مع الأبالسة ، وكانت نفسه نقية الطبع،  ولم يطويه الحزن ، ولم يصب بالكآبة بسبب عدم الضحك ، ولم يقلقه رؤية الجموع ، وكان متهللاً ، وقد شهد له الجميع بقدرته على التوجيه بالكلام ، ثم أن نفسه أيضا كانت بلا لوم، ولم تأخذه نشوة السرور والاغتباط لما حياه أشخاص كثيرون كهؤلاء، بل كان رابط الجأش كشخص يحكم عقله، كما كان فى حالة طبيعية، وبه شفى الرب أسقام الكثيرين الجسدية ممن كانوا حاضرين، وطهر آخرين من الأرواح الشريرة.وأعطيت نعمة لأنطونيوس فى الكلام، حتى أنه عزى الكثيرين من الحزانى، ووحد بين المتخالفين، حاثا الجميع على تفضيل محبة المسيح عن كل ما فى العالم، وإذ كان يحثهم وينصحهم على أن يذكروا الخيرات العتيدة ورحمة الله من نحونا.




انتظروا الجزء الثاني قريبا


















    

إرسال تعليق

0 تعليقات

Close Menu