ولد الأنبا شنودة رئيس المتوحدين ببلدة شندويل بجوار مركز أخميم محافظة سوهاج من أبوين ثريين فقد كان والده يملك حقل مترامي الأطراف ، يشتغل هو فيه مع فلاحيه ،كذلك كان يمتلك قطعاناً من الغنم .
وكان أبوه يدعى أبيجوس وأمه دروبا. رباه أبواه على التقوى والفضيلة
ولقد تنبأ عنه القديس أورسيسيوس الشبيه بالملائكة ، فقد كان هذا القديس سائراً في الطريق ذات يوم ليقوم بخدمة لازمة للدير ، والتقى أثناء سيره بأم شنودة بينما كانت في طريقها لتستقي ماء ، ولم تكن قد أنجبته بعد ، فذهب إليها القديس أورسيسيوس وسلم عليها وقال لها " سيبارك الله ثمرة بطنك ويعطيك إبناً يفوح إسمه كالعنبر في أرجاء المسكونة " وحدث بعد ذلك أنه حين تمت أيامها لتلد ولدت شنودة ولما كانت هي وزوجها من المسيحيين خائفي الله فقد ربياه على المبادئ المسيحية المثلى .
قبل أن يتم الصبي شنودة عامه العاشر أرسله أبيه مع الرعاة ليرعى الأغنام ليدربه على العمل منذ حداثة سنه ولأنه ليس بالعمل العسير ، وطلب منهم أن يدربوه على الرعاية مشترطاً عليهم أن يعفوه من حراسة الليل وأن يعيدوه إلى البيت قبيل غروب الشمس ، ومن ثم كان الطفل شنودة يلازم الرعاة طيلة النهار ويعطيهم غذاءه الخاص بدلاً من أن يأكله وعند غروب الشمس كانوا يستصحبونه حتى منتصف الطريق ثم يتركونه ويعودون للأغنام ، أما شنودة بدلاً من أن يعود إلى أبويه مباشرة ، فكان يقف إلى جانب بئر ويصلي حتى ساعة متأخرة من الليل .
وكان أبواه ينتظرانه بصبر نافذ ويتعجبان من أن الرعاة لم يفوا بوعدهم ، فلما مضت بضعة أيام وشنودة يرجع لبيته متأخراً ذهب أبيه ليتفاهم مع الرعاة مرة أخرى ، فأكدوا له أنهم يتركونه عند الغروب وأن واحد منهم يستصحبه إلى منتصف الطريق ثم يعود إليهم .
ففي اليوم التالي وقف والد شنودة يراقب من بعيد حتى يعلم أين يذهب إبنه إلى ساعة متأخرة كل يوم ، ورأى الراعي يصطحب إبنه حتى منتصف الطريق ، ثم رأى ولده يقف إلى جانب البئر يصلي ، وحين رأه على هذه الصورة تهلل قلبه وذهب وأبلغ زوجته بما رأى .
وفي اليوم التالي أخذه وذهب به إلى خاله الراهب المعروف الأنبا بيجول ، ولما وصل الإثنان إلى الدير قال له والد شنودة :" بارك يا أبي هذا الصبي " لكن الأنبا بيجول أخذ يد شنودة ووضعها على رأسه قائلاً : " أنا الذي يجب أن ينال بركة هذا الصبي لأنه إناء مختار للسيد المسيح الذي سيخدمه بأمانة كل أيام حياته" .
ولما سمع والد شنودة هذه الكلمات تطاير قلبه فرحاً وأستودع الولد خاله ثم عاد إلى أمه وأخبرها بما كان من أمره ، فشاطرته فرحه ، فنشأ شنودة منذ صباه في دير خاله ، ومنه إقتبس كل الفضائل المسيحية .
وقد شهد أحد شيوخ الرهبان بأن شنودة كانت أصابعه تلمع لمعان الشموع المضاءة حين كان يرفع يديه نحو السماء في الصلاة .
وظل بعضاً من الوقت يجاهد في سبيل الكمال الروحي بالصوم والصلاة وبالصبر والإتضاع ، وكان نشيطاً يؤدي جميع الواجبات الرهبانية المفروضة عليه بهمة نادرة .
ورأى خاله في رؤى الليل ملاك الرب يقول له :" ألبس الراهب الشاب شنودة الأسكيم المقدس " فقام في الصباح باكراً جداً وصلى صلاة الإسكيم المقدس ومنطقه به ثم قال له " إني أباركك يا إبني شنودة لأنك ستكون أباً لرهط من جماعة مباركة "وأتم الأنبا بيجول ما سمعه من الملاك وألبس شنوده إسكيم الرهبنة فصار راهباً فاضلاً نامياً في حياة العبادة والنسك، وكانت الشياطين تحاربه ولكنه بالاتضاع والصلاة وعلامة الصليب، كان يغلبها وكانت تحترق أمامه كالدخان.
ولما رأى شنودة أنه نال كرامة الإسكيم ضاعف جهوده وأمعن في دراسة الكتب المقدسة ،ولم يقتصر على دراستها لنفسه بل أخذ يعلمها للرهبان والعلمانيين الذين يفدون للدير .
وفي أحد الأيام سمع الرهبان الشيوخ صوتاً يقول :" لقد أصبح شنودة أرشيمندريت " ( رئيساً للمتوحدين ) فلما انتقل الأنبا بيجول إلى بيعة الأبكار أنتخبوا شنودة خلفاً له رئيساً للدير نظراً لروحانيته وحزمه واهتمامه العظيم بالدير. قَبِلَ الأنبا شنوده هذا التكليف واعتنى واهتم بالدير والرهبان اهتماماً فائقاً حتى تزايد عدد رهبانه ليصل إلى ما يقرب من 2200 راهب. وكانت رهبنته تتميز بالحزم الشديد، فقد وضع شروطاً دقيقة للقبول بالدير، وكانت المبادىء الرهبانية تنفذ بكل دقة، واهتم الأنبا شنوده بتعليم الرهبان كما اهتم بالعمل اليدوي للراهب. كان يشجع الرهبان على حياة الوحدة والعبادة كما اختبرها هو، وقضى في إحدى المرات خمس سنوات متوحداً في صلوات وتأملات، حتى استحق أن يسمع صوتاً سمائياً قائلاً: " بالحقيقة يا شنوده قد صرت رئيساً للمتوحدين ".
حينما أمتلأ الدير بالرهبان قام ببناء دير أخر سمي بالدير الأبيض لأن حجارته كانت بيضاء تميزاً له عن الدير الأحمر الذي كانت حجارته حمراء والذي كان للأنبا بيجول خال الأنبا شنودة وقد رئس الأنبا شنودة هذا الدير مدة 66 سنة وقام أيضاً ببناء دير للعذارى كان يضم 1800 راهبة كان تحت رئاسة الأنبا شنودة ايضاً وكان عدد الرهبان تحت رئاسته يتجاوز 5000 راهب وراهبة
ومع أن الأنبا شنودة اتبع نظام الرهبنة السائد في مصر إلا أنه وضع خطة يسير عليها رهبانه بها بعض الإختلاف سيتم تلخيصها في نهاية سيرته .
ولقد عاش الأنبا شنودة في عصر يتأجج بنيران الأحداث والإنفعالات وفي وسط هذه الحياة العنيفة الفائرة برز الأنبا شنودة كالمنارة الساطعة ومع أنه كان شغوفاً بالعزلة منذ صباه فقد شاطر العالم حياته إذ كان يرقب الأحداث والتقلبات السياسية بدقة وإهتمام .
لم تقتصر خدمة الأنبا شنوده على الرهبان فقط بل خدم الشعب أيضاً ففتح لهم أبواب ديره يصلون فيه ويأخذون حاجتهم منه، كما بنى لهم كثيراً من الكنائس في القرى المجاورة للدير وكان يدافع عنهم أمام الحكام. كما اهتم أيضاً باللغة القبطية والتراث القبطي بصفة عامة معتزاً بمصريته وكنيسته القبطية.
ولما تولى البابا كيرلس الأول الكرسي البطريركي رأى في الأنبا شنودة رجلاً فصيحاً غيوراً على الكنيسة القبطية وتعاليمها الأرثوذكسية فكان يهتدي برأيه في كثير من المسائل العويصة .
وفي سنة 431 م استصحبه البابا كيرلس هو والقديس بقطر السوهاجي إلى مجمع أفسس المسكوني الثالث فأظهر الأنبا شنودة كفاءة علمية كبرى في دحض بدعة نسطور المنافق ، وقيل أن أنبا شنودة دخل مرة الغرفة التي كان الأساقفة يتحاورون فيها وكان في وسطها كرسي وضع عليه الأنجيل المقدس ، فجاء نسطور ورفع الأنجيل عن الكرسي وجلس عليه ، فأحتدم الأنبا شنودة غيظاً من هذا التصرف المعيب وتقدم إلى نسطور وصفعه على وجهه قائلاً :" لماذا تحب أن تكرم نفسك أكثر من كتاب الله ؟" فسأل نسطور عنه فقيل له إنه أحد رهبان مصر فأحتج هو وأنصاره على السماح لراهب بالدخول في مجمع الأساقفة ثم سأل القديس قاصداً الإستهزاء به من أنت ؟ فأجابه الأنبا شنودة بقوة عارضته قائلاً :" ألا تعلم من أنا . أنا رجل أرسله الله ليزيح النقاب عن شرورك ويطلب لك القصاص على خطاياك وشرورك " فحالما سمع نسطور هذه الكلمات خر على الأرض كمن أصابه صرع . وقيل أن البابا كيرلس في ذلك الوقت رقى الأنبا شنودة للدرجة الكهنوتية التي تخوله حضور مجمع الأساقفة .
لكن من المؤكد أن الأنبا شنودة لم يكن كاهناً وكان يفصل بين الرهبنة والكهنوت وكان يسير على درب الأباء الأوائل أنبا أنطونيوس والانبا بولا والانبا باخوميوس والانبا بيشوي وغيرهم الذين فرضوا على تلاميذهم أن لا يقبلوا الكهنوت مدى الحياة حتى يحافظوا للرهبنة على صفائها وهدفها الواضح
وبعد محاكمته وحرمه ( نسطور) لم يجد المجمع مكاناً لنفي نسطور، ومحاصرة بدعته أفضل من مدينة أخميم بجوار دير الأنبا شنوده حيث لا يستطيع أن يضلل أحداً، ومكث فيها إلى أن مات.
ولما كان الله قد حباه المقدرة على الكتابة والخطابة فقد استخدم هذه الموهبة ليستدرج القومية من مكمنها داخل القلوب ويجعلها تبدو جهاراً وفي وضح النهار ، وكان لا يخاطب الجماهير إلا باللغة القبطية بلهجتها الصعيدية ( الأخميمية ) وليس هناك من دليل على زعامة الأنبا شنودة الروحية والقومية من أن هذه اللهجة سادت على الخمس لهجات التي كانت توجد في مصر من القرن الخامس حتى القرن العاشر ، وبهذا اللسان المصري الصميم ألهب صدورهم حماسة وأيقظ وعيهم القومي وجعلهم يدركون ما في مصريتهم من كرامة وسرت النار المتأججة داخل نفسه إلى نفوس مواطنيه فأشعلتها ، وكانت هذه النار التي أوقدها الأنبا شنودة هي القوة الدافعة التي مكنت المصريين من أن يقاوموا حكامهم الظلمة المستعمرين ، ومن أن يقفوا في وجههم تلك الوقفة الحاسمة من مجمع خلقدونية حيث رفضوا أن يحنوا الجباه للإمبراطور مرقيانوس حين زعم أنه يستطيع أن يفرض عليهم مذهبه الخلقيدوني الذي يخالف عقيدتهم الأرثوذكسية .
وصل الأنبا شنوده إلى درجة روحانية عالية حتى استحق أن يظهر له السيد المسيح مراراً ويتكلم معه.
ولما أكمل جهاده الصالح بسيرة ملائكية روحانية تنيَّح وانتقل إلى الراحة الأبدية في اليوم السابع من شهر أبيب المبارك من سنة 168 للشهداء ( 452م ) ، بعد أن بلغ من العمر مائة وعشرين عاماً قضاها كلها في جهاد روحي وفي خدمة الرهبنة والكنيسة، وكتب فيها الكثير من الرسائل والميامر الروحانية العميقة.
مع أن الأنبا شنودة اتبع نظام الرهبنة السائد في عصره إلا أنه وضع خطة يسير عليها رهبانه بها بعض الأختلاف .
١- طالبو الرهبنة
أفرد الأنبا شنودة منازل خاصة بطالبي الرهبنة شأنه في ذلك شأن النظام الباخومي إلا أنه جعل هذه المنازل خارج الدير بدلاً من تشيديها داخل أسواره ، وبعد أن يجتاز طالب الرهبة المدة المقررة لإختباره ويثبت خلالها أنه خليق بحياة النسك التي طلبها ينضم لجماعة الرهبان ويعيش معهم داخل الدير ، وقد طالب الأنبا شنودة الراهب عند رسامته بالتوقيع على عهد كتابي يأخذه على نفسه بإتباع قوانين الدير وبإلتزام المساواة التامة بينه وبين اخوته الرهبان وكان التوقيع على العهد من إبتكار الأنبا شنودة نفسه إذ لم يوجد بين أباء الرهبنة من طالب رهبانه بمثل هذا العمل .
٢- الإدارة
كان لمجموعة أديرة الأنبا شنودة رئيس أعلى وكان هو ووكيله مسئولين عن إدارة الدير الرئيسي والأديرة الفرعية التابعة له ، وكان لكل دير فرعي مشرف مسئول عن تنظيم الأعمال اليدوية فيه ، أما القيادة الروحية فكان الرئيس الأعلى مسئولاً عنها بنفسه في كل الأديرة وكان يعقد أربعة إجتماعات سنوية يحضرها جميع الرهبان حتى المتوحدين منهم .
٣- العبادة
جعلها أربعة أقسام :
١ - صلاة قصيرة ترددها كل مجموعة من الرهبان قبل البدء في العمل المنوط بها .
٢- الصلوات الخاصة : وتتضمن اجمالاً بعض المزامير وغيرها من التسابيح ، ولكن بما انها خاصة فقد تركت الحرية لكل راهب فيما يقول وفي المواعيد التي يختارها ( يعرف حالياً بالقانون الروحي يتم الإتفاق عليه بين الراهب ومرشده الروحي ويختلف بين كل راهب وأخر حسب مقدرة الراهب وكم الوقت الذي يستطيع إقتطاعه للصلاة )
٣- الصلاة الجماعية : وقد خصص لها أربعة مواعيد يومياً - صباحاً وظهراً وعند الغروب وليلاً - وكان الرهبان يهرعون الى هذه الصلوات في صمت تام ، وحين ينتهون منها يعودون في صمت تام كذلك لكي يفكروا في ما سمعوا من صلوات وتأملات .
٤- القداس الإلهي : كان المتبع في الأديرة أن يكون القداس خاصاً بالرهبان وحدهم ولكن حين تولى الأنبا شنودة الرياسة فتح أبواب أديرته للشعب من مساء السبت ، فكان الاف الناس يذهبون في ذلك الوقت ويحضرون صلوات المساء ويبيتون في الدير ثم يشتركون صباحاً في القداس وبعد الإنتهاء من القداس كان الأنبا شنودة يدعو هؤلاء الجموع الى تناول الغداء على موائد أعدها لهم الرهبان خصيصاً وكانوا يخدمونهم بأنفسهم ساعة الأكل وكان الأنبا شنودة ينتهز فرصة وجود الجماهير في ديره ليعظهم معلماً ومرشداً إياهم إلى الإيمان الأرثوذكسي ليعرف الشعب صحة التعاليم التي تلقنها عن أبائه ليستطيع أن يجيب عن الإيمان الذي فيه إن سأله أحد ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد .
٤- التعليم
اهتم الأنبا شنودة بالتعليم ، ولشدة أهتمامه به لم يقصره على رهبانه بل وسعه ليشمل أهالي المنطقة المجاورة لديره ، وكان يستهدف رفع الشعب من ضلال الخرافات إلى كمال المسيحية ، فقد صعب عليه أن يرى مواطنيه في فزع مستمر مما قد يقع عليهم من أذى الطلاسم والتعاويذ الموجهة ضدهم فسعى إلى تعليمهم مبيناً لهم أن هذا الخوف مجرد وهم ماداموا يحتمون في ظل محبة الله .
٥- العمل اليدوي
نال هذا النوع من العمل قسطاً وافراً من أهتمام الأنبا شنودة الذي لم يكتف بتعليم رهبانه مختلف الحرف والصناعات اليدوية ، بل أضاف إليها فن الكتابة فألحق بالدير الأبيض مدرستين يتعلم فيها الموهوبون من الرهبان كيف ينسخون الكتب ويزخرفونها
٦ - الطعام والملابس
كانت على النمط الذي كانت عليه في الأديرة الأخرى
٧- نظام العزلة
لم يتبع جميع الرهبان العائشين تحت رياسة الأنبا شنودة نظام الشركة ، بل كان بينهم من آثر حياة العزلة ، وكان هؤلاء المتوحدون يأتون إلى الدير من آن لأخر ليأخذوا منه ما يلزمهم من الخبز والماء ،أو ليحضروا الإجتماعات السنوية الأربعة ، وهكذا جمع الأنبا شنودة بين الرهبنة الأنطونية والرهبنة الباخومية .
بركة صلواته فلتكن معنا. ولربنا المجد دائماً أبدياً آمين.
أقرأ أيضاً سيرة الأنبا صموئيل المعترف
0 تعليقات