كاتب هذه السيرة المباركة هو سمعان المتافرستي ، كان يعيش في القرن العاشر ، كان بحكم عمله كرئيس للمجمع الخاص بتسجيل أخبار القديسين ، يستقصي من هنا ومن هناك عن كل قديس أو قديسة لمع اسمه أو اسمها في سماء الكنيسة كالكواكب في جلد السماء، وقد ترك لنا تاريخ هذه الشهيدة ضمن تاريخ 122 شخصية مسيحية أخرى سجلها في موسوعة " أخبار القديسين " أو " السنكسار " جمعها من أساقفة الكنائس والأديرة، ومع أنها عاشت في مدينة الإسكندرية ومواقفها اتسمت بالشجاعة والجرأة المقدسة وكل ذلك كان علانية أمام الإمبراطور الروماني ، إلا أنه لا يحمل أي أثر قديم معروف اسم كاترينا ، ولكن أوسابيوس القيصري تكلم في تاريخه عن امراءة عجيبة ( دون أن يسميها ) كان لديها الشجاعة أن توبخ مكسيميانوس الإمبراطور وجهاً لوجه على المعاملة البغيضة التي بلى بها سيدات وفتيات العائلات النبيلة جداً .
سيرة الشهيدة العظيمة كاترين
في هذا الجو المقدس ولِدت كاترينا ، ومع أن والديها كانا من سلالة الملوك إلا أنهما لم يفخرا أمامها إلا بشرف نسبهم للرب يسوع المسيح، ودفعتها هذه التربية أن تحتقر كل بهارج الإسكندرية ومسارحها وساحاتها وفسادها وتعلق قلبها بما هو أسمى وأكمل ... بما يدوم إلى الأبد ... بغنى المسيح الذي لا يُستقصى .
ونشأت كاترينا ترضع لبن الإيمان العامل من بين أحضان أمها المسيحية الحقيقية ، وكانت هذه الأم ترضعها حب الله وتكريس الحياة للرب يسوع المسيح وحب الغير وعدم التعالي أو الكبرياء، وغذتها أيضا بسير البتولات اللواتي عشن في الإسكندرية أيامها أو قبلها بقليل .
وأدخلتها أسرتها أعظم مدارس عصرها فتعلمت أحدث العلوم العصرية ، إلا أنها كانت مثابرة باجتهاد على قراءة الكتاب المقدس والتأمل في حياة الرب يسوع، وكانت كلما تقدمت في عمرها وفي علمها كلما ازدادت حبا ليسوع وتعلقا بشخصه المبارك .
كاترينا تقتبل المعمودية
لم تكن كاترينا قد اقتبلت سر العماد بعد . مع أن معمودية الأطفال كانت أمرا عاديا بين أسر المسيحيين منذ العصر الرسولي ، وفي مصر بالذات فتح معلم الكنيسة الشهير " أوريجانوس " فصلاً للأطفال المعتمدين ليعلمهم طريق الإيمان ومبادئ الملكوت، وذلك في مدرسته اللاهوتية بالإسكندرية. ومرة رأت كاترينا في نومها حلماً أزعجها وسبب الكآبة في نفسها ... رأت البتول مريم تتقدم نحوها حاملة على ساعدها طفلها يسوع ، وسمعتها تقل له : " أنظر إلى ابنتي كاترينا " . ولكن الرب يسوع أدار رأسه ولم يلتفت إليها وقال لأمه : " إنها ليست جميلة لأنها لم تُعمد بعد !! " .
وأفاقت كاترينا وعلمت أنها رؤيا ، وعلمت أن الرب يسوع يريد منها أن تغتسل بالمعمودية لتصير عروسا خاصة له . فقصت على والديها ما رأته في حلمها ، وأستقر رأي الجميع على أن يقدموا كاترينا للعماد ، وفي اليوم المعهود .. لبست كاترينا الثياب البيضاء، وأضيئت الشموع ، وأخذت الجوقات الملائكية على الأرض تنشد تسابيحها لولادة أبنة جديدة لله، وتم العماد بواسطة الكاهن على يد شمامسة الكنيسة ، ولكن كاترينا كانت تشعر بشئ آخر ... لقد كانت ترى في هذه التسابيح إحتفالا بزفافها إلى عريسها وحبيبها الرب يسوع المسيح الذي من أجله لبست اليوم ثياب الخلاص البيضاء .
وليلتها رأت كاترينا حلما جديدا ... لقد ظهر لها الرب يسوع من جديد ومعه الأم البتول وجوقة من الملائكة والعذارى، وأعلن أمامهم أنه اتخذها عروسا له .. ثم ألبسها خاتما في يمينها علامة على ذلك الوثاق السماوي الروحي . واستيقظت كاترينا ورأت في يديها خاتما حقيقيا ، فعلمت أن الرؤيا كانت حقيقية ، فامتلأت فرحا ونشاطا في الإيمان ومحبة فائقة مضطرمة للفادي المخلص ولأمه ملكة العذارى .(تشبهاً بكاترين تلبس كل راهبة في الكنيسة الغربية خاتماً رمزاً لتكريسها للرب يسوع ).
كانت كاترينا شديدة الذكاء مشتعلة الغيرة على نشر الإيمان المسيحي ، وكان من حسن حظها أنها تعيش في مدينة الفلاسفة والعلماء ، المدينة التي تضم مدرسة أوريجانوس التي علمت أكابر القوم وفلاسفتهم وصيرتهم متعمقين في كل معرفة لاهوتية، وأرادت كاترينا أن تعرف الله أكثر ، وحينما تعرفه أكثر فستحبه أكثر، فأنكبت على دراسة الفلسفة وعلم اللاهوت على يد أكابر العلماء المسيحيين وبرعت فيهما حتى أضحت من أئمة فلاسفة هذا العصر، لكنها مع ما صارت إليه من غزارة العلوم وفصاحة البيان بقيت وديعة ، بسيطة في حياتها ، متواضعة في معشرها، بعيدة عن كل صلف وإعجاب بنفسها .
وبلغت كاترينا الثامنة عشر من عمرها وأضحت جميلة الطلعة ، جذابة الشخصية لاسيما أنه كان ينبعث من حديثها وحركاتها الحياء المسيحي وعبق الفضائل الملائكية الأخاذة ، كما قيل عن عذراء النشيد " أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي كَتِرْصَةَ، حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ. " نش 4:6 . ولكنها كانت تستخدم تلك القوى التي أودعها الله إياها للدفاع عن الإيمان وتثبيته في القلوب ونشره بين الجموع ، لأنها كانت تؤمن بأن إيماناً بدون شهادة لا قيمة له ، لذا فقد كانت تشهد لمن آمنت به وتدعو الجميع أن يسعدوا بمن سعدت هي به قبلاً .
الاضطهاد يتجدد على المسيحيين
كانت المملكة الرومانية نحو عام 306 م مقسمة بين ثلاثة من القياصرة هم قسطنطين الكبير وليسنيوس ومكسميان دازا ، وكانت مصر تابعة للإمارة مكسيميان الذي تنازل له دقلديانوس عن العرش عام 305 م ، كان مكسيميان هذا مستبدا وعاتيا ومتكبرا، يبغض المسيحيين ويحلو له الفتك بهم وتعذيبهم. فأصدر منشورا بتجديد الشعائر الدينية الوثنية التي هجرها الناس ، وكان هذا المنشور موجه لمصر بالذات لأن المسيحية كانت قد تغلغلت تغلغلاً شديدا بين صفوف شعبها.
كان المنشور يقضي بأن يذهب الكل إلى المعابد ويقدمون القرابين للآلهة ، أما الذي يعصى هذا الأمر فإنه يخاطر بحياته ، وعبأ الإمبراطور كل جهوده لإذكاء روح الغيرة لتنفيذ هذا المنشور ، فبادر بإشعال الحماس في خاصته وحاشيته ، وأشعل تعصب العامة ، وأطاع الكثيرون المنشور ... الذين لم يكونوا من المسيحيين، وذهبوا إلى المعابد يحملون معهم الضحايا للذبح، أما المسيحيين فقابلوا هذا الأمر بموجة من الإحتقار للأوثان لأنهم لا يعرفون لهم إلهاً سوى الرب يسوع القائم من الأموات .
كاترينا تتقدم الصفوف
ارتاع كثيرون من المسيحيين لما رأوا عهد الإضطهاد يتجدد بعد أن ظنوه قد باد بموت دقلديانوس أعتى المضطهدين وأقساهم ، ورأت كاترينا ذلك ، وشعرت أن الرعب بدأ يدب في قلوب المسيحيين ، فكانت تخرج من قصرها كل يوم وتطوف في شوارع الإسكندرية وتدعو المسيحيين إلى اجتماعات خاصة وتشجعهم وتثبت عزائمهم وتُزهدهم في الحياة وفي نعيم هذا الدهر طمعاً ورجاءاً بأفراح وأمجاد الدهر الآتي .
نجح الإمبراطور في إخضاع الكثير من الناس له ، وإذ أراد أن يكافئهم، نظم حفلاً كبيرا وطلب أن يُقدم فيه عشرون عجلا ذبيحة للآلهة، وأصدر أمراً بأن كل من لا يشترك في ذلك الإحتفال وتقدمة الذبائح لآلهة المملكة موتاً يموت.
تعجب الناس في بادئ الأمر من تلك الفتاة ذات الثمانية عشرة عاما التي لم تفكر في ما يمكن أن يترتب عليه طوافها في الشوارع وتثبيت عزائم المؤمنين ، واستهانتها بأوامر الإمبراطور، حتى تلمسوا فيها استعدادها للموت واعتقادها الراسخ أن شهادتها للرب يسوع لا تكمل ولا تثبت إلا بالدم ، وشاع اسم كاترينا على كل لسان في بيوت المسيحيين في الإسكندرية، وانقاد لكلامها الشيخ والشاب ، والفتى والفتاة ، والآباء والأمهات، وعادت لهم غيرة آبائهم ، وبعد أن كانوا مضطربين عادوا يطلبون أن يقترب اليوم الموعود لكي يقدموا نفوسهم ذبيحة لإلههم المحب الأمين .
أمام الإمبراطور
ملأ الرب قلب كاترينا بغيرة أوفر .. فأرادت أن تعطي المسيحيين مثلاً عالياً فلا يهابون الموت ولا الاستشهاد ، فقررت أن تواجه الإمبراطور نفسه حينما يحضر هذا الحفل الكبير ، وتحاججه وجهًا لوجه .
في يوم الإحتفال الكبير.. اخترقت هذه الفتاة الصغيرة الكتل البشرية .. بخطى ثابتة كالتي مُقدِمة على مهمة إبلاغ رسالة من ملك السماء والأرض الذي بيده كل شيء إلى ذلك العبد الذي مَلكهُ الله وقتيا على أرض مصر .. ودنت كاترينا من المعبد الملاصق للقصر الذي حل في الإمبراطور بالإسكندرية ورفعت إلى الإمبراطور بواسطة الحراس رغبتها في مقابلته .. وأتت الموافقة ... وتقدمت كاترينا إلى داخل القصر ، وكان روح عريسها يؤيدها من الداخل ويملأها ثقة وطمأنينة ... وحينما دخلت ، رأت الإمبراطور جالسا وحوله الوزراء والقواد والضباط وكهنة الأوثان يعتمرون الحلل الأرجوانية المذهبة استعداداً للإحتفال العظيم بتقديم الذبائح .
وقدمت كاترينا تحياتها إلى الإمبراطور بأدب يليق بفتاة من سلالة الملوك ، ثم بدأت كلامها بهدوء قائلة : -
- إني سأكون مسرورة جداً ، حينما يعرف سيدي الإمبراطور خطأه والنتائج الخطيرة لمنشوره الأخير ..
وأخذت كاترينا تتكلم في هدوء.. وأنصت الوالي في هدوء أيضا، وقد ذُهل من ذلك التأثير والنفوذ الذين انبعثا من شخصية الفتاة . وطفقت كاترينا تحدثه عن الحياة المشرقة التي عاشها الناس العظام الذين تمجدوا ( كالآلهة ) بأمجاد الله في السماء... ثم ناشدته كاترينا أن يعطي قلبه لإله السماء الذي بيده مقبض الصولجان والذي سوف يدينه على أعماله يوماً ما .. وتركها مكسيميانوس تتكلم وهو متذرع بالصبر ، وقاوم في نفسه الشعور بالسخط والغضب الذي كان يهز نفسه من آن لآخر ، وعندما انتهت من كلامها ، أنهى حديثه معها ببعض الكلمات الطيبة ورجاها أن تنتظر حتى يقدم ذبائحه ثم يتفرغ للسماع لها ، وانصرفت كاترينا مبتهجة إذ حُسبت أهلاً أن تقف أمام ملوك وولاة من أجل اسم الفادي القدوس .
شاع في كل مدينة الإسكندرية خبر تلك الفتاة التي قابلت الإمبراطور في قصره ، وعن جسارتها في مخاطبته بذلك الكلام الرائع ، فسبح المسيحيين الرب وثبتوا أكثر في الإيمان، وأخذت العذارى يباهين بكاترينا رفيقتهن وزميلتهن ويجاهرن بالإيمان ويتغنين بعذوبة الموت حبا في يسوع المسيح المخلص .
بعدما توجه الإمبراطور إلى الإحتفال الكبير وقدم ذبائحه إلى آلهته الشياطين وعاد بين تهليل الناس وريائهم ، طلب كاترينا فأتت إلى قصره فخاطبها قائلا : - والآن أيتها الصغيرة أخبريني ماذا تريدين وكرري عليَّ الكلمات التي رددتيها على مسامعي منذ وقت قريب ، وما نَسَبُكِ وما عملك ؟
- سيدي القيصر المبجل ، أنا كاترين ونسبي معروف في الإسكندرية، وأجدادي هم من أشراف المملكة. لقد وقفت حياتي سعيا وراء معرفة الحقيقة ، وقد درست كثيرا من العلوم والبلاغة والفلسفة وإني متبحرة فيها ، ولكن كل هذا لا يزيد عن كونه في نظري نفاية في سبيل معرفة يسوع المسيح معلمي وعريسي.
واستمرت كاترينا طويلا في الكلام .. وظلت تحاججه إلى أن أثبتت له أن آلهة الوثنيين هي بالتأكيد شياطين .. وأحرجت كاترين الإمبراطور ووضعت كرامته الملكية في مأزق ، وشعر مكسيميان بالعار عند سماعه لهذه الكلمات فأجابها برفق :-
- لست ملماً كما ينبغي بعلوم الفلسفة لأرد على كلامك لكني سآتي بعلماء المملكة وهم يعرفون كيف يهدمون ما بنيتيه من العقائد التي يتراءى لك أن لا مَرَد عليها ، وسيظهرون لك أن ما تعتقدين به هو كفر وإلحاد .
فقبلت كاترينا أن تحاجج علماءه وفلاسفته ، وسلَّمت وخرجت بنفس الثبات والهدوء والأدب الأخاذ التي دخلت بهم ، وفي الوقت الذي قضاه الإمبراطور مكسيميانوس في طلب أذكى وأقدر علماءه ليحطم غرور هذه الشابة المستسلمة لحماس الشباب - حسب ما يرى هو - ، سكبت كاترينا نفسها أمام عريسها السماوي وقضت الأيام في صوم وصلاة بتواضع ليؤازرها الرب بروحه القدوس ويتكلم بفمها في تلك المعركة الخطابية الكبرى ، التي بات الجميع ينتظرونها على أحر من الجمر ، لينظروا هذا الحدث الذي لم يسبق له مثيل في المملكة .
وفي مخدعها في قصرها الذي تحول إلى هيكل يتصاعد منه بخور صلوات وطلبات القديسة لربها وعريسها أن يتمجد اسمه على فمها ظهر لها ملاك الرب يقويها ويعدها بالمساعدة والمعونة ، أما سائر المؤمنين فكانوا يصلون لأجلها كما فعلت الكنيسة حينما كان بطرس الرسول في السجن ، حتى أتى اليوم المعهود.
كاترينا تشهد للرب يسوع
تسرب سراً لرجالات البلاط ولصفوة النبلاء ميعاد قدوم كاترين لهذه المناظرة ، وأن صالات القصر ستفتح أبوابها لذلك الظرف ، فتقاطروا من كل حدب وصوب وامتلأت القاعة من أكابر القوم، وعظماء المملكة والقواد ، وأتى العلماء يتبعون كبيرهم إلى قاعة كبيرة في القصر .
ودخل الملك في عظمة وجلال فوقف الجميع إكباراً ، ودخلت كاترين ، وتملك المسيحيين الخوف عليها أن تأخذها رهبة الوقوف أمام ذلك الحشد من الشيوخ والمتضلعين في الجدل والمنطق والفلسفة فتتهيب ولا تقدر على الجواب ، ولكن عروس المسيح كاترينا بدت متواضعة مبتسمة متسربلة بيقين الانتصار بقوة عريسها ووعده أن روح الرب هو المتكلم فيها ، ولم يَبدُ عليها الاضطراب من هذا المجمع الأثيني العلمي الذي سوف تتناقش معه .
بدأ عميد العلماء بالكلام قائلا للفتاة :
- أيتها الأميرة النبيلة ، إنك تستحقين اللوم الشديد لأنكِ تكلمت عن مقدساتنا بتلك الجسارة والإستهتار !
فأجابت كاترينا بهدوء :
- من جانبي لا أعتقد أن تهمة الجسارة والإستهتار تنطبق عليَّ ، وعليك أن تتكلم بأدلة منطقية .
- إذا كنت قد قرأتِ الشعراء فسوف تجدين ألقاب المجد التي أسبغوها على الآلهة المقدسين . إن الكلمات العظيمة التي بها نمجد الآلهة بعيدة كل البعد عن أوصافك المحتقرة لهم .
- من هم هؤلاء الشعراء ؟ وما هي الأوصاف الجميلة التي أسبغوها على آلهتك ؟
- هوميروس ، على سبيل المثال، يُلقِب جوبيتر " الأعظم والأمجد " . وأُورفيليوس تكلم عن أبوللو وقال عنه " الكلي القدرة الذي يرى الآلهة ويأمرهم " . واستطيع أن أذكر أضعاف تلك المواقف وأُحصي لكِ عدداً من الشعراء الآخرين الذين مجدوا آلهتنا ، وأيضاً لم يقل أي واحد من هؤلاء الشعراء أن الرجل المصلوب الذي تؤمنين به إله !
بعد مقدمة بديعة تفيض بيانا بلغة يونانية موسيقية رقيقة بدأت جوابها قائلة :
- لقد قلت أن الشعراء تكلموا كثيراً عن آلهتك ، وأنت لا تستطيع أن تنكر أن هؤلاء الشعراء أنفسهم تفوهوا على نفس تلك الآلهة باختلال عقولها ، وآخرون كثيرون نسبوا إليها أعمالاً كريهة وجرائم من مختلف الأنواع ، هوميروس الذي مَجَّد جوبيتر بالكلمات الجميلة التي قلتها ، شتمه في وجهه مرات كثيرة بالكذب والضلال والعجز والسرقة .
ثم أوردت أقوال بعض الشعراء من أن وجود هؤلاء الآلهة لا يتجاوز بضعة أجيال ، وأن بعض الفلاسفة أقروا أن لا وجود لها إلا في مخيلة الشعب البسيط ، ثم أوضحت لهم أن الفلسفة الصحيحة المبنية على المنطق لا تستطيع أن تعترف إلا بإله واحد خالق السماء والأرض ومبدع جميع الكائنات فقالت :
- سوفوكليس يؤكد أنه من بين الأخطاء المتأصلة بين البشر إكرامهم وعبادتهم للصور والتماثيل الكثيرة للآلهة لأنه لا يوجد أبدا - بحسب قوله - إلا إله واحد هو الذي صنع السماء والأرض.
ثم بيَّنت لهم ألوهية السيد المسيح وأنه واحد مع الآب والروح القدس وأنه تجسد وخلص البشر بآلامه وموته وسردت أقوال الأنبياء في العهد القديم ثم ما جاء في كتب " السَبْلة " النبوية الوثنية التي يعترف بها الإمبراطور نفسه وعلماؤه وطبقتها على ما جاء في العهد الجديد عن حياة المسيح المخلص وموته . وقالت لهم :
- هذا أبولون يقول :- " ذلك الذي هو النور والشعاع المتوهج ، ذلك الذي هو إله وإنسان معاً ... لم يتألم أبدا في لاهوته ولكن بالجسد قاسى كل الإهانات والموت والدفن ، وغيَّر كثيرا من الأنفس في حياته " ، هذه هي بالضبط كلمات أبولون أستدِل بها هنا . ألا تعتقد أنه عليك أن تكف عن عباداتك لكي ما تقدمها إلى ذلك الذي عرفه أبولون إنه إله ؟
لما رأت كاترين العيون المتعلقة بها والأذان المنصتة لها والعقول المنفتحة لفهم كل كلمة تقولها والإهتمام الذي أُعطي لشرحها ، مضت في إطلاق كلماتها على مجمع العلماء والفلاسفة والنبلاء إلى أن انعدم تأثير عبادة الأوثان على هذه النفوس ، ثم اعترفت لهم بأن قوة علوية هي التي تستولي الآن على نفسها وعلى شفتيها وهي التي وضعت في فمها كل كلمة وكل منطق .
وأنهت كاترينا خطابها وقد استولت على كل النفوس وربحت للرب كل القلوب .
استشهاد جمع العلماء والفلاسفة
في ضيق شديد رجا الإمبراطور العلماء والفلاسفة أن يدافعوا عن الدين القويم ، وتردد العلماء والفلاسفة ثم كانت المفاجاة ... بدأوا يشرحون لمكسيميانوس باحترام شديد أن الفتاة الصغيرة قد قالت وأنهم مقتنعون بكلامها ، وأنهم كانوا قبل ذلك الحين على خطأ .. وهم بريئون من عبادة هذه الآلهة ، ويؤمنون من الآن فصاعداً بالرب يسوع المسيح الذي عرفوه من كلام هذه الفتاة، وسيعبدونه على أنه الإله الحقيقي الواحد .
اشتعل غضب الإمبراطور، وتحول الإجتماع من حلقة نقاش فلسفي إلى مأساة بكل معاني الكلمة ، فالإمبراطور كان غرضه الحقيقي من ذلك الإجتماع أن يهزم الفتاة لتصير بعد ذلك طوع شهواته الدنيئة، لكنه رأى نفسه محرجا مسلوب الكرامة في نهاية دائرة النقاش الفلسفي تلك ، والذي زاد الطين بله أن العلماء والفلاسفة الذين كان يعتمد عليهم لينال مأربه قد تحولوا إلى صف كاترينا ، فتحول إلى وحش مفترس وأمر بإيقاد أتون نار ، ليلقي فيه العلماء والفلاسفة الذين خذلوه وليجعل منهم عبرة .
وأشعل الحراس أتون النار في إحدى ردهات القصر الداخلية، وشاهد العلماء والفلاسفة نهايتهم تقترب أمام أعينهم فارتموا تحت أقدام كاترينا يسألونها صلواتها .. فشجعتهم الفتاة وأكدت لهم أن أبواب السماء مفتوحة لهم الآن ، وفجأة انفتحت أبواب الصالة الفسيحة واندفع الحراس ليقبضوا عليهم ويدفعونهم وسط الفحم المتقد .. وكان ذلك ليلة 17 نوفمبر .
وبعد أن انطفأت النيران مخلفة وراءها رماد عظام هؤلاء الأبطال، تقدم بعض المسيحيين الأتقياء وجمعوا ما تبقى منهم من عظام وملابس ثم قاموا بدفنهم بما يليق بكرامتهم كشهداء أبرار شهدوا للرب يسوع بحياتهم ولم يرهبوا النيران ، وكانت هذه المأساة قد خيمت بسحابة من الحزن على مدينة الإسكندرية كلها ، فبرغم أن المدينة الكبيرة قد اعتادت أن تشاهد دماء الناس سائلة في شوارعها إلا أنها رُوِّعت من هذه المذبحة التي راح ضحيتها عشرات من أعظم فلاسفة المدينة وحكمائها .
كاترينا أمام الإمبراطور مرة ثانية.
بعدما أفاق الإمبراطور الغاشم من سكرته في اليوم التالي ، شعر بالضيق في نفسه وأراد أن يتراجع عن قساوته الجنونية التي حدثت بالأمس.. لذلك أمر بدعوة كاترين إلى قصره وبحسن وفادتها، ولما حضرت أخذ يطلب منها السماح ، وكم كانت هذه المهمة ثقيلة على نفسه ، ولكن لما مثلت الفتاة أمامه اتخذ لهجة رقيقة لطيفة وكانت عنده سعة صدر غير مألوفة على وحش يتلذذ بالبطش بالمسيحيين، وكان لطيفا مرحا ثم خاطب كاترينا قائلاً : - يا ابنتي العزيزة ، ها أنتِ ترين المحبة الأبوية التي أكنها لكِ . لذا أرجو أن توافقي على أن تقدمي لي ذبيحة لأشتري بها رضاء آلهة الشعر التي أنت مديونة لها بالحكمة المذهلة الظاهرة في شخصك ، وحينئذ سيصير قصري مأوى لكِ ، وتصيرين ابنتي ، وكل ما ترغبينه أحققه لكِ !
فردت عليه كاترينا على الفور : - كُفّ أيها القيصر عن أن تجزل لي من كلام التملق فهو لا يؤثر عليَّ ولا يغير من ثباتي، فقد عزمت على أن أفقد حياتي أفضل من أن أنكر يسوع المسيح إلهي الذي اتخذني عروساً له وأعطاني خاتم العرس ، وإنني واثقة أنه سيغدق عليَّ من هباته عندما يلبسني ثوب الاستشهاد الذي هو في نظري أثمن من ثوب الأرجوان الملكي نفسه .
فقال لها الإمبراطور : - إحذري لأني أستطيع أن أُذِل عنادك وأُلبسك ثوب الاستشهاد الذي تتحدثين عنه .. وتجسد الشر في نظراته وهو يقول .. سوف أعذبك .
فردت عليه كاترينا في ملء الرجاء : - إعمل ما تراه حسنا ... ولا تظن أن إلحاحك سيخضعني مهما كانت قسوتك لأن المكافأة التي سأنالها أبدية . وأنا واثقة أن عريسي يسوع المسيح سينظر إلى ضعفي ويتكرم بإنارة قلوب أهل بيتك أيضا ، نعم يا له من كنز ثمين أن يحصلوا على خلاص نفوسهم! .
كاترينا تقبل العذابات على اسم عريسها يسوع المسيح
ثارت ثائرة مكسيميانوس حين رأى أن طريقته في تملق الحسناء كاترينا لم تجد نفعا ، وأمر الجنود أن تجلد ، فأخذوها في فناء القصر وجلدوها جلداً عنيفا لمدة ساعتين إلى أن تمزق جلد جسدها ، وكل من شاهد هذا المنظر بكي متأثراً من رؤية الفتاة كاترينا على هذه الصورة ، أما كاترينا فتزرعت بثبات عظيم أمام التعذيب وكأن جسمها من حجر وهي الفتاة الرقيقة سليلة الملوك ، ثم أرسلوها إلى سجن القصر وهناك ظلت 12 يوماً متتالية، كانت فيهم تسبح الرب وتشكره على ما أسبغه بواسطتها على النفوس من المواهب والنعم ، وقد عالها الرب في سجنها وضمَّد جراحاتها .
كاترينا تربح للرب نفوسا جديدة
كانت " فوستان " زوجة الإمبراطور قد رأت كاترينا في ذلك الإجتماع الشهير وأُعجبت بها في قلبها ولم تستطع أن تُمحي من ذاكرتها صورة هذا المشهد ولا من مخيلتها هذه المرأة الباسلة الراغبة في حياة أبدية ليست من هذا العالم . وزاد على ذلك أنها حلمت أنها رأت كاترينا تتلألأ بهاءً وهي جالسة على عرش من نور ، ورأتها وقد دعتها إلى الجلوس بالقرب منها وجعلت لها إكليلاً على رأسها وقالت لها : أيتها الملكة العظيمة إن عريسي هو الذي يهدي إليك هذا الإكليل .
فلما استيقظت رغبت أن ترى كاترينا ، وكان مكسيميانوس قد ذهب إلى مصب النيل لتفتيش القلاع والحصون على الحدود المصرية الشمالية ، فطلبت من " بورفيروس " قائد السجن ذلك ، وسهل القائد لها الزيارة بعد أن أبلغ السجينة ، وكم كانت فرحة كاترينا وهي في حضرة هذه الضيفة الكبيرة ، أما فوستان فقد شعرت باضطراب عظيم حين شاهدت كاترينا وقد شُفيَّت ، وها هي تتكلم بحكمة وسلطان ، وظلت كاترينا تكلمها عن السيد المسيح وعن ملكوت الله وعن الازدراء بنعيم الدنيا وبخيراتها الزائلة.
وفتح الرب قلب الملكة فآمنت، وبورفيروس القائد أيضا الذي كان ينصت للحديث نُخس في قلبه وآمن بالرب يسوع، ثم قاموا جميعا يرفعون صلاة تسبيح للرب . ولكن كاترينا تنبأت لهما بأنهما سيعاينان بعد ثلاثة أيام صنوف الآلام. فأبديا استعدادهما حتى إلى الموت .
على الآلة الرهيبة
عاد مكسيميانوس من رحلته ، وكان أول ما فعله أنه ذهب للسجن ، وظن أنه سيلقى هناك جثة ميتة ، ولكن يا للمفاجأة . فها هي كاترين وقد تحسنت صحتها وازدادت بهاءاً وإشراقاً ، فأخذ يلح عليها أن تقبل الزواج منه ، أما هي فوبخته بشدة على نقضه للقوانين إرضاءً لكبريائه وشهواته ، ولم يستطع مكسيميانوس أن يحتمل تهكم كاترينا عليه فخرج غاضبا من السجن.
وكان له حارس خاص ، وهو حاكم إحدى المقاطعات ، هذا سمع بقصة كاترين وعنادها فتقدم إلى الإمبراطور وقال له : أيها القيصر العظيم أعدك بأني سأكتشف لك بعض أنواع التعذيب الذي يضع حداً لعناد هذه الفتاة. عندي فكرة آلة بعجلات تدور بحركة عكسية ، سأزودها بقطع من الحديد مسننة ، فعند دورانها تحدث فرقعة مخيفة . ستموت هي من الخوف . وإذا لم تضع هذه الآلة حداً لعنادها فيمكن أن تقتلها الآلة .
أعجب الإمبراطور بهذه الفكرة ووافق على ذلك ، فبدأ الرجل في عمل هذه الآلة حسب ما وصفها ، ولم يكف الإمبراطور في هذه الاثناء عن محاولة زعزعة إيمان كاترين ولكن محاولاته كلها باءت بالفشل ، وفي مكان متسع وضعوا الآلة الجهنمية التي كانت تدور وتحدث فرقعة شديدة، وذهبوا إلى السجن حيث كانت كاترين واقتادوها إلى هناك ، وكانت كلما اقتربت من مكان الآلة سمعت الضجيج والفرقعة ولم تدري ما وراءها .
ووقفت كاترينا أمام الآلة الضخمة الممتلئة بالأسنان الحديدة الحادة التي تصدر صوت فرقعة تخلع أقسى قلوب الرجال ، وابتسمت ابتسامة كلها ثقة وطمأنينة ، قاد قائد الآلة كاترين إلى حيث الأسنان الحديدية ، فانقادت بسهولة، وكان قلبها مع يسوع عريسها أكثر من أي وقت مضى ، وطلبت منه عوناً وحماية . أعطى القائد أوامره فبدأ الجلادون يديرون الآلة الرهيبة بأكثر قوة لكي تسحق جسد كاترينا ، ورُبطت كاترينا بحبال متينة لكي يرفعوها ثم ينزلوها على الأسنان الحادة التي للآلة .
ورفعوا كاترين إلى أعلى، ولكن إذا بيد خفية تقطع الحبال ، وتدحرجت كاترين على الأرض ولم يصبها سوء ، وأسرع الجلادون لتدارك الموقف ، ليأخذوها من على الأرض ويعيدونها إلى الآلة لترفعها ثانية ولكن خانتهم قواهم ، إذ اجتذبتهم الآلة وقطعتهم السنون الحادة، ومجد الكثيرون الرب ، وكانت بينهم فوستان زوجة الإمبراطور التي ذهبت فور رؤيتها هذا المنظر إلى الإمبراطور وأخذت تلومه على أفعاله قائلة : إنه كان عليك أن تترك هذه الابنة تذهب حرة وتذعن للحق أمام العجائب الباهرة التي جرت على يديها ، وأن تترك شرورك وتؤمن وتؤمن بالمسيح فتخلُص ! .
وجن جنون الرجل عندما سمع ذلك الكلام من امرأته وعرف أنها صارت مسيحية هي وبورفيروس القائد .
فأمر الجند بتعذيبهما ثم قطع رأسيهما .. وتم ذلك في مشهد مؤثر جدا... إذ استشهدت زوجة مكسيميانوس والقائد بورفيروس ومئتان من الجند أيضا آمنوا بالسيد المسيح على مثال قائدهم .
في الطريق إلى عريسها السماوي
بعدما علم الإمبراطور بفشل تجربة الآلة الرهيبة، اشتد غيظه وخاف أن يصير موضع سخرية الناس بسبب هذه الأميرة الشابة " كاترينا " التي لم يستطع أن يجعلها تجحد إيمانها، فأعلن نفيها ومصادرة كل أموالها .. وكان يقول في نفسه لعلها تحت ضغط الحاجة والعوز تخور وتقبل مطالبه.. أما كاترينا فقبلت بفرح هذه التجربة الجديدة التي أرسلها لها عريسها السماوي وتأسفت جدا لأنها لم تستطع سفك دمها حبا له .
ولكن الإمبراطور انتابته نوبة جنونية، فأمر بقطع رأسها بالسيف بدل ذهابها إلى المنفى .. وبينما هي في ساحة الإعدام، قدمت شكرا قلبيا إلى الله على نعمة الاستشهاد، والتمست منه بحرارة أن يبدد ظلام الوثنية ويشرق على العالم بنور ابنه الحبيب ، ثم طلبت أن يرحم الرب كل من طلب منها شفاعة وصلاة ، ثم ركعت وأمرت الجلادين أن يكملوا واجبهم فضربوا رأسها ، وكان ذلك في 25 نوفمبر من سنة 307 ميلادية.
وبعد أن استشهدت القديسة كاترينا حمل بعض الرهبان جسدها إلى أحد مرتفعات جبل سيناء وظل الجسد مُسجى هناك حوالي خمسة قرون في حفرة من الصخر .
الرب يرشد الرهبان إلى جسد القديسة
لما أرادت العناية الإلهية أن تُظهر مجد هذه الشهيدة القديسة ، رأى أحد رؤساء الأديرة رؤيا ، كنزاً ثميناً يخفيه الجبل ، فخرج بعض الرهبان ليبحثوا عن تفسير لهذه الرؤيا ، فقال لهم رجل عجوز في الجبل : أنا بُشرت مرات كثيرة من السماء للبحث عن هذا الكنز ، ولكني خشيت لئلا يكون تجربة من الشيطان للخروج من توحدي، ولكني الآن بصحبتكم فلا أخاف شيئا، فلنذهب إلى هذه القمة العالية من الجبل حيث رأيت نوراً يسطع عدة مرات.. لابد أنه يحوي شيئا مقدساً ! .
بعد جهد كبير استطاعوا أن يتسلقوا إلى هذه القمة ، وهناك وجدوا جسد عذراء فتاة موضوعا في صخرة معوجة ، فتأكدوا أن هذا هو الكنز الموعود ، فصلوا لله شاكرين لإرشادهم إليه وطلبوا منه أن يعين لهم اسم وأعمال هذه القديسة ، وفي أثناء صلاتهم وصل إليهم شيخ آخر ، أخذ يتسلق الصخور حتى وصل إليهم وقال لهم: إخواني .. أرسلني سيدي لكم لأعرفكم اسم وحياة وأعمال ومجد هذه العذراء ، ثم أمرهم أن يحملوا الجسد الطاهر إلى الدير( دير التجلي ) إذ سيأتي شعوب من أقاصي الأرض ليعاينوا هذه الوديعة ، ثم قبَّل الجسد في وقال ونزل مسرعاً من على الجبل ثم اختفى ، ومن ذلك الوقت تسمى هذا الجبل بجبل كاترين وصارت القديسة كاترين شفيعة أديرة ذلك المكان .
أقرأ أيضاً سيرة الشهيدة العظيمة دميانة
أقرأ أيضاً سيرة العذراء الطوباوية مهرائيل
0 تعليقات