لقد عين الرب مادة هذا السر وهي الماء بقوله : «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ ..الخ . يو 5:3 والرسل لم يستعملوا غير الماء ( أع 8 : 36_38 ، 10 : 47 و 48 ) فسارت الكنيسة حسب تعليم الرب وتسليم الرسل ، ولم تستعمل في العماد إلا الماء القراح ، دون استعمال آخر مهما كان نوعه .
ثم طبقا للتسليم الرسولي تمارس الكنيسة سر المعمودية بتغطيس المعتمد تلاثاً في الماء ، باسم الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس، إشارة إلى موت المسيح ودفنه وقيامته، فقد قال العلامة ترتوليانوس : " حين نأتي إلى الماء نغطس ثلاث مرات " ( في الأكليل 3 ) وقال أيضا : " لأننا نغطس لا مرة واحدة بل ثلاث مرات باسم كل واحد من الأقانيم " ( ضد براكسيالس 26 ) وقال القديس باسيليوس الكبير : " فبثلاث غطسات ودعاء مساو لها في العدد يتم سر المعمودية العظيم، لكي يتصور رسم الموت وتستنير نفوس المعمدين بتسليم معرفة الله " ( في الروح القدس لامفيلوشيوس فصل 15 ) والذهبي الفم في تفسير يوحنا ( مقالة 25 ، 2 ) وامبروسيوس في الأسرار ( 2 : 7 ) وايرونيموس ضد لوكيفروس ( فصل ٤ ) وغيرهم من الآباء .
أما المعمودية فيجب ألا تمارس _ كقاعدة أصلية _ إلا بالتغطيس وذلك يتضح مما يأتي :
أولا : أن السيد المسيح له المجد الذي شَّرع هذا السر المقدس هكذا اعتمد ، ليضع لنا مثالا نحتذيه ، فيقول الانجيل عن عماده « فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، » مت 16:3 ، وفي ذلك برهان جلي على أنه كان مغمورا بالماء ونازلا فيه حتى أنه صعد منه .
ثانيا : ان يوحنا المعمدان والرسل الذي سلمونا وديعة الإيمان هكذا مارسوا العماد، فيوحنا المعمدان عمد الذين أتوا إليه في نهر الأردن، ولو جاز العماد بسكب الماء أو رشه لما كانت هناك حاجة للإتيان بهم إلى النهر ، بل كان قليل من الماء يكفي في هذه الحالة . وفيلبس عمد الخصي وزير كنداكة ملكة الحبشة بالتغطيس. حيث جاء في سفر الأعمال قوله « فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ الْمَرْكَبَةُ، فَنَزَلاَ كِلاَهُمَا إِلَى الْمَاءِ، فِيلُبُّسُ وَالْخَصِيُّ، فَعَمَّدَهُ. وَلَمَّا صَعِدَا مِنَ الْمَاءِ، خَطِفَ رُوحُ الرَّبِّ فِيلُبُّسَ، فَلَمْ يُبْصِرْهُ الْخَصِيُّ أَيْضًا ». أع 39-38 : 8 . فلو كان العماد بالرش جائزا لقنع فيلبس بقليل من الماء يرشه على الخصي وهو في المركبة دون أن يكلفه النزول إلى الماء.
نعم أن البعض استنتج من حادثة عماد الثلاثة آلاف نفس يوم الخمسين ( أع 2 : 41 ) ومن بعض الأشخاص في البيوت ، كعماد ليدية وأهل بيتها ، والسجان وأهل بيته والذين له ( أع 16 : 15 و 23 ) أن العماد في هذه الحالات كان بالرش . ولكن الجزم بذلك متعذر ، لأن الكتاب سكت عن ذكر الكيفية . على أن العماد في تلك الحوادث بطريقة التغطيس لم يكن مستحيلا.
ثالثا : من التشبيهات الرمزية التي وردت عن المعمودية ؛ فقد أشار بطرس الرسول إلى حادثة الطوفان والفلك، الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء ، وقال :« الَّذِي مِثَالُهُ يُخَلِّصُنَا نَحْنُ الآنَ، أَيِ الْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ الْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ » 1بط 21:3 ، ووجه التشبيه هو أنه كما دخل الثماني أنفس إلى الفلك، واجتازوا في الماء، فخلصوا من الهلاك وخرجوا إلى حياة جديدة ، هكذا بدخولنا إلى الماء في المعمودية باعتبارها موتا ودفنا وقيامة مع المسيح ، نخلص من الهلاك ونخرج إلى حياة البر .
وأشار بولس الرسول إلى معمودية الإسرائيليين في البحر الأحمر بقوله « وَجَمِيعَهُمُ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ، وَجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ، » 1 كو 2-1: 10 ، ووجه التشبيه ظاهر في هذا المثال وهو أنه كما أن الإسرائيليين اعتمدوا لموسى بعبورهم في بحر الموت الرمزي ، وخرجوا إلى شاطئ النجاة ، هكَذَا الذين يعتمدون للمسيح في ماء المعمودية، يعبرون بحر الموت ويخلصون ويخرجون إلى شاطئ الحياة بالقيامة من الأموات ( رو 6 : 3 - 4 ) . وفي هذا الدليل المبني على قياس التمثيل إشارة واضحة إلى ممارسة المعمودية بالتغطيس .
رابعا : مما جاء في أقوال الرسل عن معنى المعمودية: فقد قال بولس الرسول « أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. » رو 5-3:6 وقال « مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. » كو 12:2. ففي أقوال الرسول تشبيهات تامة حيث شبه المعمودية بالقبر ، والتغطيس بالدفن ، والانتشال من الماء بالقيامة. ولا يصح تشبيه الموت مع المسيح إلا بذلك . فحيث أن المعمودية هي مثال موت المسيح ودفنه وقيامته، فلا يصح اتمامها إلا بالتغطيس الذي به نتحد مع المسيح بشبه موته ودفنه . لأنها تمثل موتنا ودفننا وقيامتنا معه .
وأيضا يدعو الرسول المعمودية " غسلا " بقوله « لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ » تي 5:3 ، وقد أشار حنانيا إلى هذا المعنى حيث قال لشاول « وَالآنَ لِمَاذَا تَتَوَانَى؟ قُمْ وَاعْتَمِدْ وَاغْسِلْ خَطَايَاكَ دَاعِيًا بِاسْمِ الرَّبِّ. » أع 16:22 ؛ راجع أيضا ( 1 بط 3 : 18 - 21 ، أف 5 : 26 ) والغسل لا يمكن أن يتم بالسكب أو بالرش بل بانغمار الجسم كله في الماء .
خامسا : من مدلول لفظة " معمودية " فإن هذه اللفظة في الأصل اليوناني " فابتزما " وهي صيغة مبالغة من كلمة " فابتين " معناها " الصبغ " ، وصبغ الشيء لا يتم إلا بوضعه في السائل وغمره به . أما السكب والرش فلا يؤديان هذه الغاية .
سادسا: إن جميع آباء الكنيسة هكذا علموا وهكذا مارسوا : قال القديس يوستينوس " أن جميع الذين يقتنعون ويصدقون بأن ما نعلمه ونقوله حقيقي ، ويعدون أنهم يستطيعون أن يعيشوا هكذا ، يعلمون أن يصلوا ويطلبوا من الله بصوم مغفرة خطاياهم السالفة ، ونحن نصلي ونصوم معهم، بعد ذلك نأتي بهم إلى حيث يوجد ماء . وتعاد ولادتهم بأسلوب إعادة الولادة الذي أعيدت به ولادتنا، لأنهم يستحمون حينئذ في الماء على ( اسم ) أبي الكل الإله السيد ومخلصنا يسوع المسيح والروح القدس " ( احتجاج 7 صفحة 79 ) .
والقديس كيرلس الأورشليمي يقول : " كما أن الذي يدخل في الماء ويعمد ينغمر بالماء من كل جهة ، هكذا قد اعتمدوا تماما من الروح أيضا، لكن الماء يغمر المعمد من الخارج، وأما الروح فيعمد النفس داخليا بلا انقطاع " ( عظة 3 : 2 ) وغير ذلك من أقوال الآباء التي لا متسع لذكرها هنا .
أما سكب الماء ورشه الذي بدأت الكنيسة الغربية باستعماله حديثا فيكفي أن نقول أن أحواض المعمودية التي لا تزال موجودة في أقدم كنائس روما دليلا على صحة تعليمها قديما ، ولا حق لها في تحويل معموديتها إلى معمودية رش ، ولا صحة للإدعاء بأن الكنيسة القديمة لم تسمح بذلك إلا في بعض ظروف أستثنائية لا مناص منها ، وعلى الخصوص للمرضى والمقعدين الذين لا يمكن عمادهم بالتغطيس ( ترتوليانوس في التوبة فصل 6 وتاريخ أوسابيوس 6 : 43 وأغسطينوس في تفسير يوحنا 80 ) ومع ذلك فقد حدثت مشاجرات عنيفة بين مسيحي ذلك العصر ، إذ كان كثيرون منهم لا يقبلون اعتبار مثل ذلك العماد الذي تم بالرش ، وكانوا يطلبون إعادة معموديتهم ، حتى اضطر القديس كبريانوس إلى أن يكتب في هذا الموضوع لنزع الخلاف من بينهم فقال : " ان سر العماد لا يعدم قوته ولا صحته اذا تم عند الضرورة بالرش ولا حاجة إلى إعادته " ( رسالة 76 ) ولذلك فإن الكنيسة الأرثوذكسية لا تعيد معمودية من أقتضى عمادهم بالرش لداعي المرض ، ولكنها لا تسمح بإتمام السر اعتيادياً إلا كما أمر به المسيح وكما سلمنا الرسل
الاعتماد باسم الثالوث الأقدس ومعنى الاعتماد باسم المسيح
إن الكنيسة حسب تعليم الرب وأمتثالا لأمره تتمم سر العماد باسم الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس وتذكر أسماء الأقانيم الثلاثة عند تغطيس المعتمد ، وهذا واضح من أمر الرب الصريح القائل « فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. »مت 19:28 وقد ورد في القوانين الرسولية " ان كل أسقف أو قس لا يعمد حسب أمر الرب بالآب والابن والروح القدس بل بثلاثة ( آباء ) عديمي الابتداء أو بثلاثة بنين أو بثلاثة معزيين يُقطع " وعن ذلك يقول العلامة أوريجانوس " معمودية الخلاص لا ينبغي أن تتم على وجه آخر إلا باسم الثالوث الأقدس أعني باستدعاء الآب والابن والروح القدس " ويقول القديس كبريانوس " ان الرب ذاته أوصى بأن نعتمد باسم الثالوث الأقدس بجملته " ( رسالة 73 ) ويقول القديس أثناسيوس الرسولي " من يرفض هذا الأقنوم أو ذاك من الثالوث الأقدس، ويعتمد باسم الآب فقط ، أو الابن وحده ، أو الآب والابن خلا الروح القدس، فذاك لا يشترك بالسر أصلا لأن الكمال والخلاص هما في الثالوث " ( الرسالة إلى سرابيون صفحة 30 ) .
أما ما ورد في الانجيل من العبارات التي تروى عن المعمودية باسم المسيح أو في المسيح يسوع، ( أع 2 : 38 ، 8 : 16 ، 10 : 48 ، 19 : 20 ) فلا يُقصد منها نفي العماد باسم الثالوث الأقدس بل المعنى في ذلك أننا نعتمد بالمعمودية التي أسسها ورسمها ربنا يسوع المسيح . وقد قال في ذلك القديس أفلوجيوس " أن الأعتماد بيسوع المسيح هو الأعتماد حسب وصية يسوع المسيح وتسليمه الصريح أعني باسم الآب والابن والروح القدس " وقال القديس باسيليوس " لا يعثرن أحدا كلام الرسول حيث يسكت احيانا عن ذكر اسم الآب والروح القدس في المعمودية، ولا يظن لهذا السبب أن استدعاء الأسماء أمر لا يجب ملاحظته ، لأنه يقول أيها الذين أعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، وأيضا أيها الذين أعتمدتم بالمسيح، بموته أعتمدتم ، فذكر المسيح هو إعتراف بالجميع لأن هذا الاسم المقدس يدل على الإله الذي مسح ، والابن الذي مسح ، والمسحة هي الروح القدس، كما يقول بطرس الرسول " يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس " ( في الروح القدس فصل 15 )
أقرأ أيضا معمودية الاطفال
أقرأ أيضا سر المعمودية
0 تعليقات